خصوصية حماه … السفراء ولبننة سوريا !

حين بدأت الأزمة السورية السياسية، أصبح للبنان رمزية خاصة على الألسنة وفي التصاريح والشاشات. لبنان في السياسة السورية، هو تلك الخاصرة الخاضعة لانتهاكات الخارج. لبنان هو المحاصصة الطائفية السافرة والخطاب التحريضي والفتنة… والسفارات المتآمرة! السفير الأميركي روبرت فورد في حماه، فهل بدأت «لبننة سوريا»؟

في «لبنان المخاوف»، يستطيع السفير الأميركي أن يزور أي منطقة وأي زعيم يريد، ويصرّح ويطلق توجيهات دولته. في «لبنان المخاوف» الرأي العام يهادن التدخّل بينما تتعامل بعض الجهات السياسية مع الخارج بعلانية وقحة إلى حد الاستقواء بأميركا.

هنا في دمشق، السياسة فتحت عهدها الجديد، المعارضة تجتمع وتصرّح، الخارج يبدي رأيه، التغيير الدستوري في طريقه… سوريا مقبلة على جمهورية جديدة. على باب هذه الجمهورية الجديدة في ساحة التظاهر الأكبر. قرع السفير الأميركي جرس الإنذار الأول، حمل نفسه وزميله الفرنسي اريك شوفالييه إلى حماه…

صبيحة رحلة انتهاك السيادة تلك، تباينت المواقف. لؤي حسين، باسم معارضة سميراميس «المستقلّة»، غازل في السياسة ولم يندّد. بدوره، «المعارض المستقل» ميشيل كيلو اعتبر أن النظام يحمّل زيارة السفراء أكثر من حجمها. حسن عبد العظيم متكلّماً باسم الأحزاب المعارضة حافظ على النفس الرافض في مخاطبة التدخّل الخارجي، أما النظام، فأخذها ذريعة أخرى، وقوة مضافة لمحاربة من يريد إسقاطه: «أرأيتم التدخّل سافر… المؤامرة… التواطؤ»….

في السياسة، ماذا فعلت زيارة الأميركي؟

الحموي الذي لا يحق لأحد سواه أن يتكلّم عن حماه ومنها، رفع لافتة في مدينته تقول: «الحرية تبدأ في حماه وتنتهي بتحرير فلسطين»…
كيلو ولؤي حسين:
معارضة غير ممانِعة

منذ أن سطع نجم لؤي حسين في مؤتمر «سميراميس» للمعارضين المسقلّين، سادت دمشق همسات متنوعة وإشاعات، إما عن علاقته بالنظام وإما عن علاقته بالخارج. دكتور الجامعة لم يكتفِ باعتبارها علاقة بل بوضوح قال: لؤي حسين هاتف بثينة شعبان فقالت له إنها مشغولة، ثم اتصل السفير الأميركي بها مستنكراً وطالبها بلقاء حسين.
تلك شائعات، ومثلها شائعات كثيرة وتخوين كثير يطال كل من يقول لا للنظام السوري. لكن وائل السوّاح، موظف في السفارة الأميركية علناً… وصديق لؤي حسين علناً. ربما هذا سبب من أسباب الشائعات. وبالأمس في مكتبه الصغير في شارع العابد، سألت لؤي حسين «من هو أهم مسؤول زارك في هذا المكتب المتواضع؟»، فأجاب سريعاً: «سفراء»…

تعليقاً على زيارة السفير الأميركي وخليله الفرنسي إلى حماه، يرفض لؤي أن يقدم جواباً واضحاً سريعاً بالتنديد أو الترحيب، ويسلّم موقفه نصّاً على ورقة تقول: «كان من الأجدى لو ذهب إلى حماه عدد أكبر من السفراء، وليكن بينهم أكثر من سفير عربي، ليشهدوا على أن تظاهراتنا سلمية وأنها تظاهرات سياسية وليست أعمال شغب. طالبنا دوماً بأن يتاح للصحافيين تغطية ساحات الاحتجاج، وبتواجد مراقبين حياديين لمراقبة ما يجري على الأرض لتأكيد قولنا بأن ما تشهده ساحاتنا هي تظاهرات شعبية، ولتفنيد ادعاءات السلطة بأننا مجموعات شغب قليلة. لكن ربما رغبة الأميركيين والفرنسيين بإبراز دورهم أدت إلى محاولة النظام، كعادته، اتهام انتفاضتنا بالتآمر. وهذا كلام مناف للحقيقة والمنطق، فأهلنا في حماه لن يستجيبوا إطلاقاً لأي دعوة من الولايات المتحدة»… يفسّر لؤي موقفه: «يهمني من كل هذه الزيارة أنها وفّرت شهودا مهمين على سلمية التظاهر في حماه».

وفي اتصال هاتفي، بصم ميشيل كيلو على موقف لؤي حسين مضيفاً: «النظام يحمّل الموضوع اكبر من حجمه، فهؤلاء السفراء ذهبوا إما بصلاحية وإما بموافقة، وإما أنهم زاروا تلك المناطق في السابق من دون أن يستنكر أحد». لا رفض مباشرا في حديثه، إلا أن كيلو يختم: لا نحن ولا الحمويون نريد أن يتدخّل احد في شؤوننا.

رلى ركبي التي سبق لها ان شاركت في تظاهرات حماه، بدورها بَصَمَت على حديث ميشيل كيلو. إبنة البيت الحموي التاريخي علمانية، لا نقاب فوق رأسها، تدخّن سيجارها الثائر وتقول: نحن لا نريد دعماً خارجياً. نريد من الخارج أن يتوقّف عن دعم النظام وربما الزيارة تريهم أرض الواقع.

حسن عبد العظيم والأحزاب
في حماه: ممانعة ممانعة

في حماه حيث إرث السياسة لا يمكن لأحد أن يصبغ الحراك صبغة إخوانية. رغم جرح الثمانينيات الذي لم يغب من ذاكرة الحقد الحموي على النظام، إلا أن الإخوان المسلمين كتنظيم، لا ارض لهم. المستشفى اسمه أكرم الحوراني، والاشتراكيون العرب موجودون على الأرض. لهم حقوق مغيبة وأرض مسلوبة ومعارضة تاريخية مع النظام. هؤلاء لن يقبلوا بالسفير الأميركي.

القوميون السوريون رغم سقوط تنظيمهم، لا يزالون في بيوتهم في جميع الأحياء الحموية… في ليلة ذكرى استشهاد قائدهم أنطون سعاده، هؤلاء لن يقبلوا بالسفير الأميركي. الشيوعيون واليساريون، على أنواعم وتفرّعاتهم المعارضة والموالية يقرأون الصحف ويتغلغلون في المجتمع المتشدد الحموي فنّاً وعلماً ويوميات، هؤلاء لن يقبلوا بالسفير الأميركي… الناصريون رغم ترهّل أحزابهم وغبار السنين فوق هيكلياتهم، لا يزالون يعلقون صورة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في بيوتهم، هؤلاء لن يقبلوا بالسفير الأميركي… لذلك فلا خوف على حماه.
حتى الآن، قيل إن أحداً من الحمويين لم يسمعه كلمة تعجب خاطره. السفير التقى الناس. بعضهم رفع لافتة تقول له إنهم لم ينسوا فلسطين.. وبعضهم الآخر أجاب بوقاحة: «روح ساعد النظام، ما تجي تساعدنا».

ويفيد أحد الناشطين الصامتين في حماه أن السفير الفرنسي زار المدينة ثلاث أو أربع مرّات من قبل… لكن احداً لا يعوّل عليه، لان الحمويين ليسوا نعاجاً.
بدوره، الاشتراكي العربي الأول في سوريا اليوم، قائد ما تبقى من أحزاب معارضة بعد عقود الطمس والسجن، حسن عبد العظيم لا يزال يصرّح، لا بل يقاوم هجمة إعلامية حوله. المعارض السياسي الأبرز على أرض التظاهر يعزف على حماه من دمشق. في اتصال هاتفي مع «السفير» أمس صرّح باسم المعارضة: زيارة السفراء هي نوع من الضغط.. دفع للنظام باتجاه حل سياسي. فهناك شعور بأن أميركا والغرب لا يعطون مواقف حاسمة. لكننا اعلنّا من قبل: نحن ضد التدخل الخارجي ولا نعوّل عليه كثيراً، نعوّل على أن الشعب السوري مصمم على التغيير. هؤلاء السفراء يتصرفون وفق مشاريعهم. مواقفهم ترتبط بمصالحهم الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية.

في السياسة:
مدينة نهر العاصي
في السياسة وحديث السياسة يوم أمس، اختلفت تقديرات العقول المعارضة والموالية، اللّماعة والصامتة، لزيارة السفراء إلى حماه. حماه هي نموذج ثورة الريف السوري. وفي زيارة سابقة إلى مناطق الشمال، كان البعض في حمص يرمي رائحة طائفية الخطر المذهبي، والبعض في جسر الشغور يحمل سلاح «الجهاد» ضد النظام هذه المرة، حلب كانت صامتة لأسبابها الخاصة الكثيرة، وبانياس كانت مقسومة «شرقية وغربية»… لكن حماه مختلفة!

حماه، ليست تظاهرات عشرات المندسين في جامع ما من فائض الجوامع التي أثمرها عهد البعث، وليست امتدادا للمشروع السني المسلّح من شمال لبنان، وليست امتدادا لمصالح الأتراك من جنوب تركيا.. حماه هي الذاكرة والجرح، وهي المدينة الكبرى التي ليس فيها احد معجب بالنظام. إذا كان حديث المعارضة في مقاهي اللاذقية يعرّض صاحبه لاضطهاد الأكثرية الموالية، فحديث الموالاة في مقهى حماه ومكاتبها هو الذي سيعرّض صاحبه للاضطهاد. في حماه، حين نزلت مسيرة تأييد، كسّر الأهالي سياراتها. في حماه، حين تنزل تظاهرة لإسقاط النظام، تنزل الآلاف المؤلّفة. ينظّم الأكل والمياه، يفرز الشارع قيادة تنظّمه وتحميه… في حماه، انتفاضة حقيقية يعرفها النظام جيّداً ويدرك طبيعتها… وعلى حماه، وصمة الإخوان المسلمين واغتيالاتهم…

لذلك، لا الشارع حمل سلاحه القديم، ولا النظام اعتمد قسوته المعهودة معها. في اللحظة العاطفية الكبرى، قد توضع حماه في أي إطار سياسي، فلا حزب معارض أساسي بعد عليها. الخيار عند النظام. إذا أرادوا تسمية حماه «حزب نهر العاصي» أو «حزب الإخوان المســلمين»، ذاك رهن بذكاء اللاعب والأوراق. حماه هي الساحة.
اليوم، يزورها السفير، فيرى محلل سياسي «من بطن النظام السوري»، أن في ذلك إفادة كبيرة: قدّم بزيارته خدمة كبيرة للنظام وكشف عن دور أميركي ما وبالتالي غذى وضعنا هذا الجزء في سياق الأحداث حيث سنرى أن النظام يستفيد من أخطاء خصومه:

جسر الشغور وسلاحه كرّس صورة «مجرمين قتلة»، وهذه ورقة في يد النظام.
التدخل التركي شد عصب الوطنية السورية، وهذه ورقة في يد النظام.
العرعور كرّس صورة «إسلاميين ظلاميين»، وهذه ورقة في يد النظام.
واليوم، السفير الأميركي كرّس التدخّل الخارجي، وهذه ورقة مضافة في يد النظام.

لهذا السبب، قوة النظام السوري في أخطاء خصومه، وضعفه في أخطاء فريقه.
عشية مؤتمر الحوار الوطني الأول، الذي لن تحضره المعارضة… ذلك كان الحديث السياسي، السفير وزيارته إلى أرض المشكلة. هناك من مانع وهناك من رحّب وهناك من غازل وهناك من رفض… دمشق لا تعرف معالم حلّها بعد، كل ما تعرف أنها باتجاه مرحلة تغيير حزب البعث بالشكل الذي هو عليه.. يحكى عن بعث «البعث» من جديد بحلّة مختلفة، يحكى عن تعيينات جديدة في القصر بدءاً من موقع المستشارة السياسية والإعلامية في الرئاسة السورية بثينة شعبان، يحكى عن تغيير ما.
وتحت صور ذلك التغيير، ما بين صورة تونس ومصر وليبيا واليمن، هناك سفير غربي يتدخّل في ما لا يعنيه. بعين بيروتية في دمشق، الخوف ليس من مشهد ليبي في حماه، الخوف من مشهد سياسي على الطريقة اللبنانية.

السابق
نحاس تمنى لو حاكت الجلسات هموم الناس
التالي
الجمهورية: الأكثريّة تتوقّع حواراً إقليميّاً والمعارضة تنتظر الحريري أوّل مجلس وزراء لمصرف لبنان والأمن العام والأركان