ما بين الأعناق والأعماق

أقولها وأبدأ بها: التاريخ عندنا يُعيد نفسه، حرباً خلف حرب، أزمة خلف أزمة خلف أزمة، ثمّ صوراً تذكاريّة بالأكتاف العريضة والكرافاتات الطويلة لحكومات جديدة على درج قديم جديد في قصر قريب بعيد! صورة يقف فيها المختارون الجدد كالألف، برؤوس مرفوعة، برقاب عمودية، يختصرون تاريخ الإستقلال مذ التفّ حبل المشنقة على أعناق الشهداء الأوّلين، إلى وقت ظنّ فيه الشعب أنه تحرّر فصار له طبقة من أعناق تلتفّ عليها كرافاتات الخَوجنة وأناقة الحاكم…

في الصّورة أزمة ما، قد تكون حُلّت ولو صُوَريّاً، وهي عادة ترقد تحت الرّماد. ولكن ما همّ والمصوّر هنا، والرّقاب منتصبة، والإبتسامات رهن الطلب. صورة تذكارية رسميّة تذكّر بقول لهتلر: "كم هي محظوظة الحكومات بأن تكون الشعوب غبيّة". نعم، في البدء كانت الصّورة! ويتبع هذا الفولكلور عادة تعليق يُطلق عليه اسم البيان الوزاري، قد تختاره حكومة ما مستفيضاً، فتسترسل في الشرح وصفّ الكلام الطويل والمملّ كلائحة طعام مطعم صينيّ بألف صحن وطبق، وروّاد المطعم يتساءلون أيّ طاه هذا الذي بوسعه تقديم كلّ هذا القدر من الطعم الجيّد، في حين تَعد حكومة أخرى ببيان مقتضب، على أساس أنّ الإقتضاب برهان على جديّته. وفي الحالين، على الجمهور أن يُصفّق سلفاً مهنّئاً بالإنجازات الآتية.

يبتسمون، وهم عارفون أنّ المسافة بين الأعناق والأعماق ليست بعيدة. الأعناق التي تحمل رؤوسهم تدرك حقيقة الفاجعة القابعة في الأعماق. ففي الأعماق لا دولة قانون ولا دولة مؤسّسات، وفي الأعماق أيضاً خلاف على ملكيّة البلد، ولا اتفاق على المقاومة والمحكمة.

في الأعماق تركات وتراكمات، وتبادل اتهامات، واستقواء وتوازن خوف متبادل. في الأعماق إستنفار لا حوار، وإكراه لتغيير معادلات، وخضوع لإملاءات مستوردات. في الأعماق لا لبنان أوّلاً ولا لبنان آخراً، بل حبال تكبلّهم وتشدّهم إلى صناديق كنوز تكتلاتهم المذهبيّة الخفيّة. والمؤسف المؤسف أنّ العلاج في شرقنا لا يبدأ بالمعالجة الجذريّة، أي من الأعماق، بل بكرافاتات حرير تلوّن الأعناق.

للواقفين على الدّرج نصيحة قد تنفع هذه الأيّام: يا رجالاً يُحبّون المجد ويُجلّـوه، لا تنغرّوا اذا ما كان اليوم يومكم. عزّزوا مثواكم الأخير، واختاروا لأنفسكم قبراً جميلاً، لأنكم متى دخلتموه… أنتم فيه باقون.
والى أبناء شعبي أقول: "تمعّنوا جيداً في الصّورة، وتذكروا أنكم كما تكونون يُولّى عليكم".

السابق
سورياهم تابعة وسوريانا سيدة
التالي
الوجه الآخر للفيسبوك