
مع كل أزمة سياسية أو أمنية يمرّ بها لبنان، يعود إلى الواجهة الحديث عن قانون الانتخاب، لا باعتباره مجرد أداة تقنية لتنظيم الاقتراع، بل بوصفه أحد أبرز مفاتيح بقاء النظام الطائفي أو تغييره. وفي ظل الحراك الدولي الحثيث لإعادة صياغة معادلة الاستقرار اللبناني، تتزايد المؤشرات على أن المجتمع الدولي عازم على الدفع نحو تعديل قانون الانتخاب، إما عبر التفاوض أو تحت ضغط اقتصادي ودبلوماسي.
لكن السؤال الأهم يبقى: ماذا لو رفضت القوى السياسية اللبنانية هذا التعديل؟ هل يكون لبنان حينها أمام انسداد جديد، أم أمام انفجار؟
لماذا يهتم المجتمع الدولي بقانون الانتخاب الآن؟
الاهتمام الدولي ليس جديدًا، لكنه بات أكثر إلحاحًا بعد انتفاضة 17 تشرين، والانهيار الاقتصادي الكبير، وتعطيل الاستحقاقات الدستورية من دون محاسبة. قوى القرار الدولية، ولا سيما الولايات المتحدة، فرنسا، والاتحاد الأوروبي، باتت تعتبر أن قانون الانتخاب الحالي يُعيد إنتاج طبقة سياسية مسؤولة عن الفشل والانهيار، وأنه أحد أبرز معوّقات الإصلاح.
فالدوائر المفصّلة طائفيًا، والصوت التفضيلي داخل اللائحة، والتمثيل غير المتوازن للمغتربين، كلّها آليات تُستخدم لحماية المنظومة وتهميش أي محاولة لتغيير جدي.
في صلب التسوية: سلاح، وانتخابات
في الوقت الذي يُطرح فيه عبر قنوات غير رسمية، كـ”ورقة توماس باراك”، مشروع تسوية شاملة تشمل سلاح حزب الله، وعودة الدولة إلى المؤسسات، يتم ربط هذا المشروع بإعادة النظر بقانون الانتخابات.
فأي اتفاق على ضبط سلاح حزب الله، أو دمجه ضمن استراتيجية دفاعية، أو حتى فرض حياد لبنان، لا يمكن أن يصمد طويلًا إن لم يُستكمل بتغيير آلية إنتاج السلطة.
بكلمات أوضح: لا يمكن أن يُطلب من حزب الله تنازلات استراتيجية كبرى في ظل قانون انتخاب يمنحه وحلفاءه أغلبية نيابية مضمونة. ولا يمكن للقوى التغييرية أو السيادية أن تنافس بفعالية في ظل قانون يمنع قيام كتل عابرة للطوائف أو معارضة موحدة.
الدوائر المفصّلة طائفيًا، والصوت التفضيلي داخل اللائحة، والتمثيل غير المتوازن للمغتربين، كلّها آليات تُستخدم لحماية المنظومة وتهميش أي محاولة لتغيير جدي.
ما الذي يريده المجتمع الدولي؟
رغم تباين الطروحات، إلا أن العناوين المشتركة التي يجري دفعها في الكواليس تشمل:
إلغاء الصوت التفضيلي الذي يفجّر اللوائح ويكرّس الزعامات.
توسيع الدوائر الانتخابية أو جعل لبنان دائرة واحدة ضمن نظام نسبي.
تعزيز تمثيل المغتربين عبر اقتراعهم لجميع اللوائح والدوائر، لا فقط للنواب الستة.
إيجاد آليات إشراف دولي أوسع على الانتخابات لضمان شفافيتها.
كما يتم طرح فكرة إنشاء هيئة مستقلة للانتخابات، بديلاً عن وزارة الداخلية، لضمان إدارة غير مسيّسة للعملية الانتخابية.
ضغط خارجي واضح… ومسار مفروض؟
وكما بات معلومًا، فإن انتخاب رئيس الجمهورية وتكليف رئيس الحكومة الحاليين لم يكن نتيجة توافق داخلي، بل جاء بضغط خارجي واضح، شمل أطرافًا إقليمية ودولية دفعت بقوة نحو تشكيل تسوية سياسية “مضبوطة” تخدم الاستقرار بالحد الأدنى. وهذا ما يعزز الاعتقاد أن ملف قانون الانتخاب سيكون بدوره خاضعًا للضغط نفسه، لا بل قد يُفرض على القوى اللبنانية كما فُرض غيره، تحت عنوان الإنقاذ أو الحماية من الانهيار الشامل.
وماذا لو لم يتم تعديل القانون؟
هنا تكمن الخطورة. في حال استمر رفض القوى السياسية – خاصة الثنائية الشيعية، والتيار الوطني الحر، وبعض قوى “المنظومة” – لأي تغيير في قانون الانتخاب، فإننا أمام سيناريوهات عدة:
أولًا: خسارة الثقة الدولية.
التمسك بقانون انتخاب مفصّل على قياس الزعامات الطائفية سيؤدي إلى تآكل ما تبقى من ثقة المجتمع الدولي، وبالتالي استمرار عزلة لبنان وحرمانه من أي دعم خارجي حقيقي، سواء اقتصاديًا أو سياسيًا.
فإن انتخاب رئيس الجمهورية وتكليف رئيس الحكومة الحاليين لم يكن نتيجة توافق داخلي، بل جاء بضغط خارجي واضح، شمل أطرافًا إقليمية ودولية دفعت بقوة نحو تشكيل تسوية سياسية “مضبوطة” تخدم الاستقرار بالحد الأدنى.
ثانيًا: تأجيل الانتخابات النيابية.
إذا تبيّن أن توازن القوى النيابي لا يخدم “التسوية الكبرى” التي يُحضّر لها دوليًا، قد يتم اللجوء لتأجيل الانتخابات تحت حجج أمنية أو لوجستية. وهذا يعني تمديدًا مقنّعًا للمنظومة، وتعميق الأزمة الداخلية.
ثالثًا: انفجار داخلي سياسي وربما شعبي.
في حال فُرضت تسوية دولية على لبنان من دون تمثيل شعبي عادل، أو من دون إتاحة الفرصة للقوى المعارضة والتغييرية للمشاركة الفعالة، قد يشهد لبنان جولة جديدة من الغضب الشعبي، وربما عودة إلى الشارع بأشكال أكثر راديكالية من 17 تشرين.
الرهانات والفرص
هناك فرصة حقيقية اليوم لوضع قانون انتخابي عادل، متوازن، يسمح بظهور قوى وطنية عابرة للطوائف، ويؤسس لحياة سياسية سليمة. الفرصة تكمن في التفاهم مع المجتمع الدولي بدل مواجهته، وفي استخدام الزخم الإقليمي لتعديل بنية النظام من دون الوقوع في فوضى.
لكن القوى الممسكة بالسلطة تدرك أن تغيير القانون يعني تغيير قواعد اللعبة، وقد يؤدي إلى خسارتها سيطرتها على البرلمان، وربما على مفاصل السلطة كلها. من هنا فإن المواجهة متوقعة، سياسية كانت أو مالية أو حتى ميدانية.
في النهاية، فإن قانون الانتخاب في لبنان لم يعد مجرد ملف داخلي. إنه أحد مفاتيح الحلّ أو الانفجار.
إما أن يكون مدخلاً لتجديد الحياة السياسية،
أو يصبح أداة لتعميق المأزق وجرّ البلاد إلى مزيد من العزلة والانقسام.
المجتمع الدولي يراقب، ويتحضّر للتدخل. أما السؤال فهو:
هل تُبادر القوى اللبنانية لتلقف هذه الفرصة، أم تنتظر أن يُفرض عليها التغيير بالقوة… أو بالانهيار الكامل؟
اقرأ أيضا: صيف لبنان الملتهب: بين إنذار نتنياهو ومبادرة برّاك..النار أقرب من التسوية