
سواءً كانت الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى كما يقول الفيلسوف والمؤرخ العسكري البروسي كارل فون كلاوزفيتز، أم أن السياسة هي امتداد للحرب بوسائل أخرى كما ترى الفيلسوفة الألمانية – الأميركية حنة آرندت والفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، فالمقولتان تؤكدان أن الحرب والسياسة متلازمتان، وذلك بغض النظر عن مدى تقدُّم إحداهما على الأخرى، الأمر الذي يعتمد على ظروف وشخصية الأطراف المتصارعة ومدى ملاءمة كل منها لمصالحه ومشروعه.
من طوفان الأقصى إلى طوفان التناقضات
وإذا أخذنا الحرب الدائرة رحاها في الشرق الأوسط منذ السابع من تشرين الأول “أكتوبر” 2023، تاريخ انطلاق “طوفان الأقصى” ما بين إسرائيل ودول ومنظمات محور الممانعة – ولو بالمفرّق – والتي امتدت لتُغرِق المنطقة بأكملها وتجرف معها الكثير من أطراف هذا المحور وقيادييه السياسيين والميدانيين، وهي الحرب التي يدّعي الطرفان انتصارهما فيها مع أنها لم تنتهِ بعد، نقول: إذا أخذنا هذه الحرب من منطلق هاتين المقولتين، فإننا نجد أن المعايير انقلبت نسبةً لمجريات الأمور على الأرض، خاصة من جانب محور الممانعة وإعلامه وآليات البروباغندا لديه، كما كان الحال دائمًا في منطقتنا منذ النكبة وحتى اليوم، للأسف.
فبالرغم من كمّ الخسائر الهائلة التي تعرّض لها أطراف هذا المحور سواء كمنظمات وأنظمة أو كشعوب وأوطان، وبرغم التراجع السياسي وضمور الأهداف، من الدفاع عن الأقصى وتحرير الأسرى في فلسطين مثلاً إلى المطالبة بعودة الوضع إلى ما كان عليه عشية الطوفان، وفي لبنان من مشاغلة العدو ومساندة غزة إلى محاولة الحفاظ على السلاح في شمال الليطاني بعد سحب غالبيته من الجنوب ومناقشة تسليمه للدولة اللبنانية تنفيذًا للقرارات الدولية، وفي إيران من حماية المشروع النووي ومنشآته إلى مجرد حماية حياة المرشد، بالرغم من كل هذا، فإن أبواق هذا المحور تدّعي “الانتصار”، وذلك انطلاقًا من السقف الذي أعلنه بنيامين نتنياهو – يا للمفارقة – لحروبه وهو القضاء بالكامل على هذه الأطراف ومشروعها، الأمر الذي لم يتم طبعًا ولن يتم بالمعنى المادي للكلمة، بالرغم من تحقيق أغلبه على المستوى الميداني والسياسي، ما “كشف” حقيقة سقف مطالب هذا المحور، وهو البقاء – ولو المعنوي – ليستطيع الادعاء بأنه انتصر ويستثمر هذا “الانتصار” أمام جماهيره ومريديه.
إذا أخذنا هذه الحرب من منطلق هاتين المقولتين، فإننا نجد أن المعايير انقلبت نسبةً لمجريات الأمور على الأرض، خاصة من جانب محور الممانعة وإعلامه وآليات البروباغندا لديه
انتصارات بلا أفق… وهزائم بلا مراجعة
من هنا نجد أن هذه الإشكالية – إذا صحّ التعبير – إشكالية الانتصار والهزيمة، تنتج عن مدى واقعية وحقيقة السقف الذي يضعه ويحدّده كل طرف لنفسه ولأهدافه من الحرب مقابل الطرف الآخر، بغض النظر عن البروباغندا الإعلامية. ليتبيّن لنا أنه مقابل السقف الإسرائيلي العالي جدًا والحقيقي للمواجهة الحالية التي تُظهر – حتى الآن على الأقل – وكأنه لم يتحقق كليًا وبالتالي تتيح للطرف الآخر ادعاء الصمود والانتصار، هناك سقف ضمني وحقيقي هو الآخر لكنه غير معلن – بعكس البروباغندا – وهو سقف جدّ “منخفض” – إذا صح التعبير – لمحور الممانعة يتمثّل ببقاء النظام في حالة إيران، والحركة والحزب في حالة كل من فلسطين ولبنان، من دون أدنى اعتبار لمصالح الأوطان والشعوب ومعاناتها ومآسيها التي نجمت عن هذه الحروب، وهو ما يُفسّر – ربما – اقتناع قادة هذا المحور، أو بعضهم على الأقل، ومريديهم وهم المؤمنون بالغيبيات والماورائيات حدّ الادعاء بأن الملائكة تقاتل معهم – ربما كأنظمة ومنظمات – اقتناعهم بما يطرحون ويسوّقون من “انتصارات” تعكس في الحقيقة انفصامًا وانفصالاً عن الواقع.
وهكذا، يصبح ما جرى ويجري في غزة من دمار شامل وخسارة أكثر من 200 ألف ضحية بين قتيل وجريح ومفقود، وخسارة مئات وربما آلاف الكوادر من أطباء وأساتذة جامعات وصحافيين وغيرهم ما يتطلب سنوات كثيرة لتعويضهم، وكذلك في لبنان من تدمير لقرى بأكملها وتهجير أهلها، كما استباحة لبنان وسمائه ومقتل آلاف المواطنين وإعاقة الآلاف من الشباب، وحتى في إيران مع تدمير البرنامج النووي أو حتى تأخيره لسنوات – على أقل تقدير – يصبح كل هذا “انتصارًا”، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى مزيد من الهزائم والنكبات، لأن استيعاب الواقع والتعامل معه بصدق وجديّة، هو أول الطريق إلى الإصلاح والتغيير والتقدّم.
اقرأ أيضا: صيف لبنان الملتهب: بين إنذار نتنياهو ومبادرة برّاك..النار أقرب من التسوية