
في لحظة إقليمية تبدو فيها كل الجبهات مفتوحة، وبينما يترنح الداخل اللبناني تحت وطأة الانهيار الاقتصادي والسياسي، يشتد السباق بين الحرب والتسوية. إسرائيل على لسان رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو رفعت السقف إلى أقصاه، معلنة أن ما مضى من القتال لم يكن سوى “نزهة”، في إشارة إلى المرحلة الأولى من الحرب التي أطلق عليها حزب الله اسم “حرب الإسناد”. أما المرحلة المقبلة، بحسب التهديد الإسرائيلي، فستكون شاملة، مدمرة، وموجهة نحو إنهاء الوجود العسكري لحزب الله بالكامل.
معطيات استخباراتية: التحضير قائم للحسم
تفيد تقارير استخباراتية غربية أن إسرائيل أعادت منذ بداية حزيران الماضي تشكيل بنك أهداف جديد في لبنان، يشمل مواقع نوعية تابعة لحزب الله في البقاع والجنوب، ومرافق لوجستية في الضاحية الجنوبية لبيروت. ويقول مصدر أمني أوروبي إن تل أبيب حصلت على “ضوء أخضر ضمني” من واشنطن لاستخدام أسلحة أعماق جديدة قد تغير قواعد الاشتباك، خصوصًا بعد الضربة الأميركية المباشرة لمفاعل فوردو الإيراني، وان موعد الحرب المقبلة مع لبنان لن يتخطى نهاية الصيف، في حال اصرّ حزب الله على الاحتفاظ بسلاحه.
وبحسب نفس المصدر، فإن الولايات المتحدة تشجّع إسرائيل على “اختبار حدود الردع الإيراني في لبنان”، ضمن خطة أوسع لتحجيم الحضور الإيراني في المشرق، بعد التراجع الكبير في النفوذ الأميركي في سوريا والعراق خلال الأعوام الثلاثة الماضية.
مبادرة برّاك: آخر رصاصة دبلوماسية
في هذا السياق الملبّد، يتحرك الموفد الأميركي توماس برّاك على خط الأزمة، حاملاً في جعبته مبادرة مدعومة من فرنسا ومصر والأردن، تقوم على ثلاث ركائز:
وقف فوري لإطلاق النار بضمانات دولية.
سحب السلاح الثقيل لحزب الله من الجنوب إلى ما بعد نهر الليطاني، ثم في المرحلة الثانية من كل لبنان.
فتح باب مفاوضات حول دور الحزب في الدولة، في موازاة حوار لبناني داخلي شامل.
حتى الساعة، لم تلقَ المبادرة قبولًا من الحزب الذي يعتبرها “تكرارًا مموّهًا لشروط الاستسلام”، فيما يتردد أن الرئيس نبيه بري يتعاطى معها بحذر، ويدفع باتجاه تعديل بعض بنودها لتكون مقبولة داخليًا.
المواقف اللبنانية: انقسام في الداخل وقلق في الجيش
المواقف اللبنانية: اتفاق رئاسي وتحفّظ حزب الله
بعيدًا عن الخطاب الصاخب، تتعامل الدولة اللبنانية مع التصعيد الإسرائيلي ومبادرة برّاك من منطلق الواقعية السياسية. وقد نتج عن المشاورات المكثفة بين الرؤساء الثلاثة جوزاف عون ونبيه بري ونواف سلام، ورقة رد أولية على مبادرة برّاك، حملت عنوان “الخطوة مقابل خطوة”، تقترح تنفيذ متزامن لإجراءات ميدانية وسياسية من الجانبين، وهي:
سحب تدريجي لسلاح حزب الله الثقيل من الجنوب مقابل انسحاب إسرائيلي مماثل من المناطق الحدودية المتنازع عليها،
وتوسيع صلاحيات قوات “اليونيفيل” بإشراف لبناني مباشر، مضافًا إليها التزام دولي بإعادة إعمار المناطق الجنوبية المتضررة.
غير أن هذه الورقة، رغم توافق الدولة عليها، قوبلت بتحفظ علني من حزب الله، الذي رأى فيها “تذويبًا غير مباشر لمنطق المقاومة”، ورفض تضمين أي إشارة إلى سحب السلاح أو نقله إلى عهدة الدولة تحت إشراف دولي.
في هذا السياق، أشار مصدر سياسي مطّلع إلى أن “الانقسام داخل الدولة ليس حول مبدأ حماية لبنان، بل حول الوسائل”، موضحًا أن “رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة تعتبران أن لبنان لا يحتمل مواجهة كبرى، وأن الوقت حان لإعادة التموضع السياسي بما يراعي المتغيرات الإقليمية، بينما يتمسك حزب الله بمنطق الردع الثابت الذي يرى أنه نجح في لبنان سابقًا وسينجح اليوم أيضًا”.
ويضيف المصدر: “الرئيس عون يدرك خطورة المرحلة، لكنه لا يملك أدوات الفرض، بل يسعى لتأمين شبكة أمان وطنية تقلّل من حجم الانفجار المرتقب، إذا ما فشلت المبادرة الدولية”.
إيران: حزب الله ليس ورقة تفاوض
على مستوى الإقليم، لا يبدو أن طهران في وارد التفريط بحزب الله، لا كورقة تفاوضية ولا كذراع ردع. فبعد الضربة على فوردو، بعثت القيادة الإيرانية برسائل واضحة عبر مسؤولين في الحرس الثوري إلى حلفائها، مفادها أن “الرد يجب أن يكون طويل النفس، ومتعدد الجبهات”، وأن أي تراجع في لبنان سيُفهم في طهران كانهيار لمعادلة الردع الإيرانية برمتها.
هل نحن ذاهبون إلى الحرب؟
المشهد اليوم يذكر بمرحلة ما قبل حرب تموز 2006، مع اختلاف جذري في موازين القوى وعمق الاصطفافات الدولية. فإسرائيل اليوم لا تواجه حزب الله فقط، بل تواجه شبكة إقليمية غير مرئية من الدعم الإيراني، تمتد من اليمن إلى غزة. في المقابل، حزب الله لم يعد يملك هامش المناورة الذي كان لديه قبل عقد، فالبيئة اللبنانية هشّة، والغضب الشعبي من الحرب يتصاعد، خصوصًا في ظل غياب الدولة.
لكن الأرجح، وفق تقديرات دبلوماسيين غربيين، أن الحرب ليست هدفًا بحد ذاتها لإسرائيل، بل وسيلة ضغط كبرى لفرض تسوية إقليمية أكبر، تبدأ من لبنان وتمر بسوريا، ولا تنتهي قبل الجلوس مع طهران. غير أن الحسابات على الورق ليست كافية: في الشرق الأوسط، شرارة صغيرة تكفي لإشعال الحريق الكبير.
اقرأ أيضا: اللجنة الرئاسية تُعاود الانعقاد اليوم..وحزب الله يبلّغ بري موقفه من ورقة بارّاك..