التشيّع العذب في جبل عامل: من ينابيع الذاكرة الصافية

التشيع في جبل عامل كان عذبًا رقيقًا صافيًا مثل مياه الينابيع.

لست فقيهًا لأكتب في الدين أو المذهب…

لكن صودف أنني وُلدت في قرية شيعية تتربع على تلة في الجنوب، على مرمى حجر من جبال الجليل.

ومن عائلة تُنسب نفسها لشيخ مشايخ جبل عامل ناصيف النصار، الذي تحالف مع ظاهر العمر، وقاتل الجزار، وقضى على صخرة في أقاصي الجنوب.

وتعتز بانتسابها للعرب العاربة… يشهد على ذلك أسماء النساء فيها إلى عهد قريب… زمعة، عفراء، سراب، تورين، رهبونة، شما، زهر البان.

وفي الرجال: بزيع، سطام، عدوان، يقظان، عرسان، نضيد، مشلب، منهل…

وعليه، اختارت لي أمي اسم “نواف”، فمرضت وتعلعلت… حتى فتح الشيخ الكتاب وقال: سموه “حسن”…

كانت حداءات أمي: “يا حادي العيس” و**”يا بو الحسن يا علي”** أول الشجن الذي تردد في أذناي، محمّلًا بأحزان العراق…

لم يكن في قريتنا مئذنة، كان جارنا يعتلي سطح البيت في رمضان، وينشر صوته فوق البيوت والحقول، فتسارع إلى موائد إفطار بسيطة: شوربة عدس، وفتوش، وما تيسّر من حواضر البيت.

وفي الأسحار نتناول قمر الدين، وجبنة صفراء مع اللبنة البلدية، وكأس من الشاي…

وبلسان عربي لا تشوبه شائبة، كان يفتح “سفينته” ويقرأ علينا سيرة الحسين في عاشوراء…

ولا يشترط أن ندفع له أجرًا أو بدلًا.

الوعي المتدرّج: من المجالس الحسينية إلى مشايخ الثورة

وفي صور، التي انتقلت إليها لإكمال تعليمي المتوسّط، دأبت على حضور مجالس عاشوراء في نادي الإمام الصادق، التي أضفى عليها سحر الإمام الصدر اعتدالًا في الخطاب وتنوعًا في الحضور…

ورغم يساريتي الواضحة في مطالع العمر، كنت وفيًّا لتعاليم أبي في احترام رجال الدين، ورفيقًا دائمًا له في زيارة شيخ القرية كلما عدت من سفر قريب أو بعيد…

في العشرين، التقيت على طريق فلسطين بما كان يُعرف بـ”مشايخ الثورة”:

الشيخ محمد ابن الشيخ رضا فرحات، وشقيق الشيخ محمود، مدير المجلس الشيعي، الذي كان أول من قرأ على مسمعي أن “صلح الحسن لا يقل أهمية عن استشهاد الحسين”.

السيد محمد حسن الأمين، القامة العالية في ثقافة التنوير، وصلابة الموقف في الانحياز لقيم الحرية والاعتدال…

السيد هاني فحص، الحبيب، والرفيق، والصديق، والأخ، والأب، والابن، والروح القدس، الذي حفر عميقًا في القلب والعقل والوجدان والروح…

قرأتُ الكتاب… وصرفتُ أكثر هذا العمر في قراءة الكتب… كتب التاريخ، والسيرة، والرواية، والشعر، والسياسة، والفلسفة…

وأزعم بأن التشيّع كمكوّن ثقافي لم يكن طاردًا لمكونات أخرى في هذا الفضاء المعرفي الواسع…

وأن ما نشهده من سيطرة لمفهوم التشيّع السائد والمهيمن هو أقرب إلى التشيّع الإسماعيلي في القرن الرابع منه إلى تشيّع أهل البيت.

السابق
الأمم المتحدة: مؤسسة غزة الإنسانية  «فخ موت» مصمم للقتل أو التهجير
التالي
مقتل نائب قائد الأسطول الروسي في قصف صاروخي استهدف مقاطعة كورسك