
لا يُسلَّط الضوء الكافي لرؤية مماثلة في الوضوح تمكِّننا من الفرز الحاسم والكامل لطبيعة الاستقطاب الذي يشهده عصرنا، فإن هذا الامتياز غير كافٍ في تعيين المكان المشابه له في عصرنا. إنّ فكرة العبد، مثلاً، لم تعد بسيطة ومجردة في عصرنا، أو مجسدة برمز معين، أو باتجاه محدد ووحيد.
هذه الصورة التي تقوم على تجاهل المسافة بين العصرين، وتدعو إلى استحضار مجرد وسيط لحادثة كربلاء، متوهِّمةً أن مجرد استحضارها كفيل بأن يُنشئ في عصرنا حركة انحياز شاملة لقضايا الحق والعدل والعقيدة الإسلامية الصافية.
هذه الصورة تُمثّل اتجاهاً في النظر إلى قضايا التاريخ وعلاقتها المؤثرة في قضايا الحاضر والمستقبل، وهو اتجاه يُعتمَد بخصوص حركة الإمام الحسين (ع) والأحداث التي أسفرت عنها. وثمة اتجاه آخر يُخالفه في المنهج، وقد يلتقي معه في بعض النتائج، وهو الاتجاه الذي يُقرّر أن أحداث التاريخ القديمة لا علاقة لها بطبيعة التحديات والمشاكل المعاصرة، وأن غاية ما يمكن الاستفادة منه، في مجال استحضار التاريخ، هو التعبئة وإيقاظ الروح المعنوية للأمة من أجل صناعة مستقبل يليق بالمحطات المضيئة في تاريخنا.
ثورة الحسين والدوافع الانسانية
هذا اتجاه يرى الترابط العضوي بين أجزاء التاريخ ومفاصله، ولا يُميّز بين عنصرين: التبادل والتحول في حركات التاريخ، أي هو اتجاه مأخوذ بحركة التحول دائماً، غير قادر على رؤية الدوافع الإنسانية التي دائماً ما تتسم بالثبات والاستمرار، كدوافع الوصول إلى الكفاية والحرية والعدل.
وبالرغم من الاختلاف المنهجي بين الاتجاه الأول والثاني، حيث الاتجاه الأول يجعل من الحاضر صورة مكررة من التاريخ، والاتجاه الثاني ينسف العلاقة بينهما كلياً، إلا أنهما – أي الاتجاهين – ينتهيان إلى نتائج متشابهة عملياً، لأن كلا الاتجاهين يُفقِدان التاريخ وظيفته الطبيعية، تماماً كما يفعل المريض حين يمتنع عن الدواء مرة، وحين يأخذه جرعة واحدة مرة أخرى.
نُحاول من خلال الحديث عن القضية المفصلية في البحث: عاشوراء وتحديات الواقع العربي والإسلامي الراهن، أن نبلور الاتجاه التالي: الذي يقع في نقطة متوسطة بين الاتجاهين المذكورين.
وهو اتجاه يهدف إلى قراءة الحدث التاريخي عموماً ضمن شروطه وظروفه التاريخية، وتطبيق هذا المنهج على ثورة الإمام الحسين (ع)، لما يتيح استخلاص المغزى العام المتعلّق بالقضايا الجوهرية ذات الطابع المنسجم بالثبات والاستمرار. وهذا المنهج يُمليه اعتباران: أحدهما الأمانة العلمية التاريخية من جهة، وثانيهما السعي إلى إقامة أمتن العلاقات والروابط بين الذاكرة التاريخية للمجتمع والأمة – وفي طليعتها ذاكرة عاشوراء – وبين متطلبات التغيير والتصدي والحيوية التي تفرضها تحديات الحاضر والمستقبل للمجتمع والأمة.
لذلك، وبعد الشرح السريع لطبيعة هذا الاتجاه، نُسارع إلى طرح السؤالين المركزيين التاليين:ما هو جوهر عاشوراء؟ ثانياً: ما هي تحديات واقعنا العربي والإسلامي الراهن؟
ثورة سياسية اصلاحية
فجّر الإمام الحسين ثورته في وجه السلطة الأموية عام 61هـ. وانتهت هذه الثورة كما هو معروف باستشهاد جميع الثوار وقائدهم في معركة غير متكافئة يوم العاشر من محرم من السنة المذكورة، وتجلت في هذه المعركة من جانب الحسين(ع) وأصحابه أعلى صور البطولة وأوجع صور المأساة كما يعرف ذلك الجميع بما لا حاجة لتفضيله في هذا المقام. وحفرت هذه المأساة وصور البطولة والتضحية النادرة التي سبقتها ومهدت لها جرحاً عميقاً في وجدان الأمة ما زال يرشح ويتجدد وسيستمر كذلك في الأجيال والحقب القادمة حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
لم تولد ثورة الحسين هذه من الفراغ بل جاءت امتداداً لحركة سياسية إصلاحية تصحيحة في الفكر والمجتمع الإسلامي، بدأت في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان والذي شكلت خلافته فرصة لانقضاض العناصر المضادة على السلطة واستأثرت بها. وببيت مال المسلمين وشرعت في تأسيس حركة انقلابية كاملة على قواعد العدل والمساواة التي أرساها الإسلام خلال مسيرته القصيرة.
وقد شهدت هذه المرحلة حركة شعبية عارمة للاعتراض على مصادرة السلطة والاستثئار بالأموال. إلا أن هذه الحركة انتهت بما يسميه المؤرخون “الفتنة الكبرى” حيث قتل الخليفة عثمان وبدأ مسلسل جديد من حركة الثورة المضادة أدخل الكيان الإسلامي آنذاك في حروب وصراعات كانت تهدف جميعها إلى إفشال حركة التصحيح التي قادها الإمام علي عليه السلام تحت شعار إرساء العدل والمساواة وإعادة الأموال المنهوبة والسلطات المصادرة إلى أصحابها، ملخصاً ذلك بقوله الشهير: من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق”.
وكان علي(ع) يمثل في هذه الحركة أوسع الجماهير الإسلامية التي رأت فيه ضمانة لتطبيق الإسلام وإقامة العدل، ولكن الثورة المضادة بقيادة معاوية بن أبي سفيان وطبقة كاملة من الذي تمكنوا من مصادرة السلطة والمال في عهد عثمان وأصبحت امتيازاتها أمام خطر المصادرة من يد الإمام عليه السلام.
عمدت هذه الفئة إلى أثارة فتنة وشغلت علياً عليه السلام بحروب داخلية انتهت بمقتله وسقط حلم العدل والمساواة من جديد سقوطاً مدمياً مخلفاً وراءه في هذه الأمة الجديدة عاصفة من القهر والإحباط توجته الثورة المضادة بمصادرة السلطة بكاملها وتصفية مواقع المعارضة وإبادتها وتتويج معاوية خليفة على رأس السلطة الجديدة.
شهد الإمام الحسين(ع) هذه الفصول، وشهد الفصول المريعة التي قامت بها السلطة الجديدة بعد أن استتب لها الأمر في تصفية ما تبقى أثار العقيدة الإسلامية في الفكر والسياسة والمجتمع، شهد ذلك كله وشهد انهيار موازين القوى بالكامل لمصلحة الثورة المضادة حيث جاء تتويج يزيد بن معاوية خليفة بعد أبيه مؤشراً خطيراً لانهيار هذه الموازين. وكان ما شهده الإمام الحسين(ع) مع ذلك كله السقوط الذريع للنخبة التي صدئت ضمائرها وسيوفها معاً. وتوزعت السقوط بين مقايض لتاريخه الجهادي بموقع له في السلطة الجديدة أو بحفنة من المال والامتيازات وبين معتزل للصراع. وحده كان الإمام الحسين(ع) الشاهد المسؤول في هذا المدى المختنق برائحة الخيانة والغدر والطغيان وحده ومعه جماهير غفيرة لا حول لها ولا قوة صودرت أحلامها بالعدل والمساواة والكرامة. جماهير مسحوقة بالذل والفقر والخوف مسلوبة الإرادة ولا أمل لها بالانتصار.
علي(ع) كان يمثل في هذه الحركة أوسع الجماهير الإسلامية التي رأت فيه ضمانة لتطبيق الإسلام وإقامة العدل، ولكن الثورة المضادة بقيادة معاوية بن أبي سفيان وطبقة كاملة من الذي تمكنوا من مصادرة السلطة
جوهرة العدالة المسروقة
الدين الذي هو الإسلام عنوان الحرية والعدل والمساواة هو الآخر صودر ليتوج هذا التحالف الرهيب بين سلطة المصادرة والمال المنهوب، كانت فتوحات الإسلام على قدم وساق وصوت الآذان يدوي في الآفاق الممتدة لأقطار المجتمع الإسلامي والزكاة تجبى والفقهاء والقراء يفتون ويقرؤون القرآن ويفسرونه بما ينسجم مع رغبة السلطان وقراراته وتدابيره، فماذا كان يوسع من يعرف الحقيقة المرعبة أن يفعل؟ ماذا يفعل الحسين؟ وهو يرى جوهرة العدل والوحدة والحرية والمساواة تسرق من الدين تحت شعار الدين نفسه؟ ماذا يبقى من الإسلام إذا فقد هذه الجوهرة؟ والآن بعد أربعة عشر قرناً من تاريخ هذه الأمة. هل ثمة استعادة لهذه الجوهرة المفقودة؟
كل الصراعات التي شهدها هذا التاريخ الطويل كانت تدور حول هذه الجوهرة المسروقة، وأغلب المعارك التي خيضت كانت بين فرقاء يرفعون شعار استنقاذها. أما الواقع فإن كل فريق كان ينوي التفرد بها ومصادرتها لنفسه وقليلة هي الثورات في تاريخنا العربي والإسلامي التي قامت من أجل إعادة هذه الجوهرة.
الحق والعدل والحرية والمساواة، قليلة هي الثورات التي قامت من أجل إعادتها إلى أصحابها الشرعيين وهم جماهير هذه الأمة. فمنذ ثورة التوابين مروراً بثورة العباسيين والمماليك والعثمانيين وصولاً إلى عصرنا الحاضر عشرات الثورات تعد باستنقاذها وإعادتها إلى أصحابها. وعندما يستقيم لها الأمر وتصبح دولاً تعود إلى الاستئثار بها من جديد ويمضغ الفقراء خيبتهم بانتظار أمل جديد أو خيبة جديدة. الآن بعد أربعة عشر قرناً ما هو جوهر التحدي الذي يشهده واقع الأمة؟
لماذا كل هذا الانهيار والتفكك والاستسلام المهين؟ أتكون المسألة مسألة الجوهرة إياها؟ الأرجح أنها كذلك ولكنها هذه المرة تتسم بآلية أكثر تعقيداً فنحن نكاد في غمرة الهزائم المتوالية من أعدائها والطامعين بنا، لا نكاد نرى أين تكمن هزيمتنا الحقيقية فحسب الهزيمة قدراً غاشماً وانهيار موازين القوى الدولية ضدنا قدراً أيضاً وتظاهر الزمن علينا قدراً واستلامنا للنظام الدولي الجديد قدراً.
والعلمانيون منا الذين لا يستسيغون كلمة قدر، قدريون أيضاً فيستعملون مصطلحاً جديداً لنفس المعنى فيقولون: إنها الحقائق العنيدة للعصر، مشروع التسوية قدر وحقيقة عنيدة من حقائق ميزان القوى الدولي الجديد والنتيجة أن كل شيء بقضاء ما بأيدينا خلقنا تعساء، إن الهزيمة لا تتجزأ، وهيمنة منطق القضاء والقدر والحقائق العنيدة ليست إلا وجهاً من وجوه الهزيمة. بل قد يكون أوجاعها لأنه هزيمة في الوعي. إن منطق القضاء والقدر يفترض أنه ذو أصول دينية، فيا لمفارقة الاستبداد العلماني حين يتحصن بهذا المنطق لتفسير انتكاساته وهزائمه. أسس معاوية حسب زعم بعض المستشرقين وأتباعهم من بعض المؤرخين العرب، أسس أول هيكل للدولة في تاريخ الإسلام، إذا صح هذا فإن الصحيح أيضاً أن معاوية هو أول حاكم في الإسلام يُعمل معول الهدم بأسمى عقيدة جاء بها الإسلام هي عقيدة الاختيار فيكون أساس الدولة في الإسلام إذن قائماً على إلغاء عقيدة الاختيار أي على القضاء والقدر وبالنتيجة على الاستبداد.
وهكذا يتكرس في وعي الناس أن خلافة يزيد قدر وأن غياب العدل قدر والاستبداد قدر وحرمان الناس من حقوقهم قدر وامتلاك السلطة قدر والطغيان قدر والاعتراض على هذا القدر كفر بالله وتهديد للنظام العام ومروق من الذين. وقضاة العدل يحفظون الحكم عن ظهر قلب والسيّافون بالمرصاد.
معاوية هو أول حاكم في الإسلام يُعمل معول الهدم بأسمى عقيدة جاء بها الإسلام هي عقيدة الاختيار فيكون أساس الدولة في الإسلام إذن قائماً على إلغاء عقيدة الاختيار أي على القضاء والقدر وبالنتيجة على الاستبداد.
إن الاستبداد والاستئثار وتغييب العدل والحرية وعدم مشاركة الأمة في وضع مقاييس العدل والحريات والتوزيع العادل للثروة وغياب الديمقراطية ومنع تداول السلطة بواسطتها هي هي الهزائم والتحديات الكبرى والأخطر في واقعنا العربي والإسلامي. وهي هي الجوهرة المسروقة والتي هي البديل الحقيقي الوحيد، لكل الخيارات الزائفة الأخرى. فالاستسلام للقضاء والقدر لا يغير موازين القوى ولا يأتينا بالنصر و(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) صدق الله العظيم وشكراً لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
اقرأ ايضا: عاشوراء بين الذاكرة والواقع (1): حين يُصبح الحسين مرآة لهزائمنا ونهضتنا