
لماذا الحديث عن عاشوراء، وما هي صلة عاشوراء بتحديات الواقع العربي والإسلامي الراهن؟
إن عاشوراء حدث سياسي بطولي مأساوي واقع في تاريخنا ذات عصر بعيد، أي منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً تلته على امتداد هذه القرون الطويلة أحداث لا حصر لها، وتشكل من هذه الأحداث تاريخا طويلا شهدت فيه هذه الأمة دولاً تنهار وأخرى تصعد وتجارب وأفكار وتيارات تتفاعل وتتكامل، أحياناً، فتصعد أمة وتزدهر حضارتها ثم يأخذ الصراع والتنافر طريقة إلى هذه الأفكار والتيارات فيبدأ الانهيار والتفكك وتضمر روح الإبداع والحركة في كيانها.
وتتداعى علينا الأمم في تعبير الحديث الشريف تداعي الأكلة على قصعتها، وإذا كان تاريخ كل أمة هو ذاكرتها الخاصة بالإضافة إلى الذاكرة العامة التي تشترك فيها مع شعوب وأمم أخرى، فإن ذاكرة الأمم والشعوب تشبه إلى حد ما ذاكرة الأفراد من وجوه كثيرة.
الذاكرة الحية في زمن الإنهيار
ومن هذه الوجوه موت أجزاء من الذاكرة واستمرار الحياة في أجزاء أخرى. ولا شك أن ما يموت وما يكبر وما يستمر حياً في ذاكرة الشعوب يخضع، في موته وحياته، لقوانين معقدة ليس هذا مجال بحثنا وإن كان من الضروري الإشارة إلى نظرية الكمون التي ترفض موت الذاكرة وتقول بكمونها، وإذا كان مجال الاختلاف والتنازع واسعاً في تحديد وتعيين العناصر الحية من العناصر الميتة أو الضامرة أو الكامنة من تاريخ كل أمة على حدة أو من التاريخ العام لبعض الأمم أو لجميعها، فإن ثمة محطات ومفاصل في التاريخ العام والخاص لا يجري الخلاف بشأن حياتها وحيويتها واستمرار تأثيرها في التاريخ وحياة الشعوب المعنية، فقد نختلف على مدى الذاكرة الفرعونية مثلاً أو الذاكرة الفينيقية في الوعي التاريخي للمصريين أو اللبنانيين ولكننا لا نختلف أبداً بشأن حضور التاريخ الإسلامي في وعينا الحاضر خصوصاً مرتكزاته الأساسية ومفاصلة النوعية.
كما أننا لا نختلف على حقيقة مبدئية وهي أن الشعوب لا تحيا بدون ذاكرة أي بدون تاريخ. وإذا ما أصيبت بفقدان الذاكرة أصابها الموت. وإذن نعود إلى السؤال لماذا الحديث عن عاشوراء، ونجيب لأنها ذاكرة حية. وما صلتها بتحديات الواقع العربي والإسلامي الراهن؟
والجواب هنا لا تختصره كلمة واحدة ولا صيغة واحدة ولا منهج واحد بل ربما تعددت الإجابات عليه بتعدد الصيغ والمناهج الكثيرة والمتنوعة والمتعددة المستويات، ما دام الجواب يمس حقلاً معقداً من حقول المعرفة البشرية عنيت به حقل القوانين التي تحكم علاقة التاريخ بالمستقبل ودور الوعي الراهن في التأثير على هذه العلاقة والتحكم بها.
وإذا كان هذا حال المعرفة البشرية من التعدد والتنوع والاختلاف، فإن البحث عن جواب حاسم ودائم على مثل سؤال العلاقة بين عاشوراء وتحديات الواقع الراهن يصبح محاولة متعسفة بحق التاريخ والحاضر والمستقبل معاً.
إنها محاولة تتجاهل طبيعة التنوع والاختلاف ونسبية الحقيقة في المعرفة وفي معرفة التاريخ خاصة وبشكل أخص إذا اتجهت هذه المعرفة نحو توظيف التاريخ لتعليم صورة المستقبل وصيغة، ولكننا بالرغم من ذلك لا بد أن نقدم إجابتنا الخاصة وهي بالتأكيد ليست إجابة نهائية وحاسمة لا تقبل الشك والتعديل، بل هي إجابة خاصة ونسبية تحاول أن ترصد نبض عصرنا العربي والإسلامي الراهن في واقعة كربلاء، وأن ترصد أيضاً نبض واقعة كربلاء في عصرنا العربي والإسلامي الراهن. ويكون أمام محاولاتنا في الإجابة على العناصر المشتركة بين عاشوراء أي ثورة الحسين(ع) في القرن الأول للهجرة، وبين طبيعة التحديات التي تواجه أمتنا العربية والإسلامية في القرن الخامس عشر للهجرة، يدور سؤال تطرحه طبيعة هذه المسافة الزمنية الطويلة التي تفترض تبدلآً وتغيراً نوعياً في الظروف والملابسات الاجتماعية والنفسية العالمية والحضارية بين عصرنا الراهن وعصر الحسين(ع).
إن قرناً واحداً من القرون الفاصلة بين واقعه كربلاء وهو قرننا الراهن شهد منذ بدايته حتى عقده الأخير، من المتغيرات والانقلابات والتحولات العاصفة ما يجعل عالمنا الراهن مختلفاً كلياً عن العالم في بداية هذا القرن.
فكيف يسوّغ لنا الحديث عن نبض مشترك بين عصرين مختلفين يفصل بينهما هذا المدى المتطاول من القرون، وكيف يسوّغ لنا عقد مقارنة بين تحديات ومشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية مشتركة أو متشابهة بين هذين العصرين اللذين لا يوجد من التشابه بينهما سوى كونهما طرفين زمنيين وحلقتين من حلقات التاريخ العربي الإسلامي، أي لا رابط بينهما سوى علاقة أجزاء الزّمن بعضها ببعضها.
هذا هو السؤال الذي يدور في دائرة هذا البحث وهو سؤال هام سنعود إليه.
مقاربتنا للحدث الكربلائي
أما السؤال الآخر والذي لا بد من إثارته فهو ذو طبيعة نقدية ويطرح الشك في جدوى الشعارات والتقاليد والطقوس التي ترافق أحياء ذكرة عاشوراء من ندب وبكاء وضرب للصدور والرؤوس واستعادة نصيّة ومسرحية للجانب المأساوي لواقعة كربلاء، على النحو الذي تبدو فيه عاشوراء وكأنها مجرد مناسبة لتفجير عاطفة الحزن المتراكم، وهو حزن في مجتمعنا العربي والإسلامي متراكم ومتجدد تغذّيه دائرة مفعمة بالخيبة والألم والإحباط، وواقع مماثل لا يعرف بخلاص إلا لينكفئ مجدداً في خيباته المتكررة.
تبدو عاشوراء في طقوسها الشعبية وفي كثير من النصوص التي تستعيدها مشجباً لتعليق أحزان جديدة ومجالاً لممارسة إسقاطات جديدة للحزن، فتصبح في غمرة هذا الحزن المتصاعد كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء أي أن كربلاء تصبح مكاناً وزماناً للحزن المؤبد، ويغيب الوجه الآخر للحدث، تغيب دلالاته ومعطياته وتاريخيته وإمكاناته المتجددة.
تسعفنا كربلاء في الغضب أحياناً ولكنه غضب يفتقر إلى سياق فينقلب إلى إحباط تفتح كربلاء عيوننا على قيم الحرية والعدل والمساواة ولكن هذه القيم تبدو مثل كواكب بعيدة عن أعيننا فتفيض العيون بالدموع ويلتبس الأمر، فلا يعود واضحاً ما إذا كانت دموع الحزن على الحسين هذه أم دموع الحسرة التي تشعلها فينا هذه الكواكب البعيدة المنال، في واقع لم تعد قيم الحرية والعدل والمساواة فيه بعيدة عن أمم أخرى كبعدها عن أمة الحسين(ع).
نطوي هذا الإشكال المتعلق في طبيعة مقاربتنا للحدث الكربلائي التي اتسمت على مدى حقب طويلة بطابع هو أقرب إلى ممارسة الطقوس منه إلى استحضار الحدث بوصفه طاقة محركة، ونعود إلى سؤال المسافة التي تفصل عصرنا عن عاشوراء كيف نتعامل مع هذه المسألة هل نتجاهلها؟ فنستحضر الحادثة كما لو أنها وقعت للتو وفي شروط عصرنا وظروفه، أي كما لو أن هذا الحدث منسلخ من تاريخيته أو كما لو أن التاريخ يعيد نفسه في دورة لها طابع التكرار بحيث تصبح مهمة استحضار عاشوراء ثقافة فاعلة ومؤثرة، مقتصرة على مقاربة ساذجة بين عصرنا وعصر الإمام الحسين(ع) وتصبح المسألة كلها في أن نجد لكل رمز أو حدث من أحداث عاشوراء ما يعادله…