
وسط تصاعد التوتر الإقليمي، يتحوّل النزوح من الضاحية الجنوبية إلى ظاهرة اجتماعية صامتة، تعكس خللًا عميقًا في علاقة الناس بالمكان.
منذ السابع من أكتوبر 2023، تتزايد حالات انتقال عائلات شيعية من سكّان الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت إلى مناطق أبعد عن مراكز النفوذ الأمني لحزب الله. هذه التحركات تعكس حالة من القلق المتصاعد في أوساط الأهالي، على خلفية المخاوف من توسّع رقعة الحرب بين إسرائيل وإيران لتطال الأراضي اللبنانية من جديد، وبالتحديد مربّعات حزب الله في الضاحية ومحيطها.
وقد اختبر الشيعة هذه التهديدات سابقًا خلال الحروب، حين طالت الغارات مختلف المناطق الشيعية في الجنوب والبقاع والضاحية، وصولًا إلى أقصى قرية شيعية في الشمال وجبل لبنان.
نزوح مؤقت أم دائم؟
تتنوّع أنماط النزوح بين مؤقت ودائم. بعض السكان غادروا منازلهم في الضاحية واستأجروا في مناطق أخرى ريثما تتضح الصورة، فيما قرّر آخرون بيع عقاراتهم والانتقال إلى خارج لبنان، أو على الأقل إلى مناطق بعيدة نسبيًا عن نفوذ حزب الله، ضمن المناطق الدرزية والمسيحية والسنية.
فالتطورات الإقليمية الجارية وتزايد الحديث في وسائل الإعلام عن إمكانية توسّع المواجهة إلى لبنان بسبب تدخل حزب الله لمساندة الجمهورية الإسلامية في إيران، زرعت شعورًا عامًا بأن المرحلة المقبلة قد تكون أكثر عنفًا من كل ما شهدته السنوات السابقة.
الوجهات الجديدة: ضواحي أكثر أمانًا
بحسب شهادات حصلت عليها “جنوبية”، فإن الوجهات الجديدة شملت الحدت، بعبدا، عاليه، الناعمة، بشامون وعرمون. تُعتبر هذه المناطق، من وجهة نظر النازحين، أكثر أمانًا كونها بعيدة عن مرمى الضربات أو الاستهدافات العسكرية المحتملة.
أحد السكان الذين فضّلوا عدم الكشف عن اسمه لأسباب أمنية – وربما لأسباب اجتماعية تتعلّق بخوفه من رد فعل البيئة – قال لـ”جنوبية”: “لم أنزح بشكل كلي، فقط أخذت احتياطاتي لحماية عائلتي”.
هذا ما اعتبره حقًا مشروعًا لكل إنسان، بينما الغريب هو البقاء في مناطق مرشحة للاستهداف.
آخر باع شقته بـ100 ألف دولار بعدما كان قد عرضها سابقًا بـ130 ألفًا، وهو مثال على انخفاض الأسعار بعد اندلاع الحرب الإسرائيلية–الإيرانية.
تتنوّع أنماط النزوح بين مؤقت ودائم. بعض السكان غادروا منازلهم في الضاحية واستأجروا في مناطق أخرى ريثما تتضح الصورة، فيما قرّر آخرون بيع عقاراتهم والانتقال إلى خارج لبنان
سوق عقارية مرتبكة: العرض والطلب لا يلتقيان
فدوى عيد، العاملة في مجال العقارات، تصف السوق بأنه غير مستتب: “العمل يوم بيوم بحسب استفحال الحرب”.
وتشير إلى أنها تملك شقة في الجنوب “لكن من سيخاطر بالذهاب لرؤيتها أو شرائها؟”.
رغم أن أسعار الإيجارات تراجعت عمّا كانت عليه سابقًا، إلا أنها تبقى مرتفعة بسبب الطلب الكبير، وخصوصًا في المناطق الآمنة نسبيًا.
فمثلًا، إيجار شقة من غرفتين، غير مفروشة، في الدكوانة يبلغ 400 دولار شهريًا.
كما لاحظت عودة الطلبات عبر القروض السكنية مما زاد من الإقبال على التملك خارج مناطق الاشتباك. ومع ذلك، تؤكد أن معظم النزوح من الضاحية هو نزوح نحو الإيجار، لا التملّك.
تحول اجتماعي عميق أم ظرف طارئ؟
هل النزوح مجرد ردة فعل أمنية ظرفية، أم بداية لتحول اجتماعي طويل الأمد؟
الوقائع تشير إلى تغيّر أعمق في علاقة أبناء البيئة الشيعية مع الضاحية، لم يعد الخوف من الحرب وحده دافعًا للنزوح، بل أيضًا وعي جديد يُعيد النظر في الانتماء الجغرافي والسياسي.
السكوت الظاهري لا يخفي السؤال الذي يطرحه كثيرون: إلى أين تأخذنا هذه الحرب؟
قرارات مغادرة المكان لم تعد مسألة تكتيكية مؤقتة، بل خيارًا حتميًا لأسر تسعى لحماية نفسها وسط غياب الطمأنينة في بلد اعتاد الأزمات.
طلب مرتفع وأسعار متقلبة
ترافق النزوح المحدود من الضاحية مع ازدياد ملحوظ في الطلب على الشقق في محيط بيروت، مما رفع الأسعار وأدى إلى تناقضات واضحة في السوق.
فالشقق في مناطق محاذية للضاحية تشهد طلبًا متزايدًا يرفع الأسعار ويُعقّد فرص الحصول على سكن لائق، خاصة لمن ينتمون للطبقة الوسطى والدنيا.
بدارو نموذجًا: الإيجارات ترتفع رغم الحرب
مارون شمعون، تاجر عقارات في بدارو منذ 30 سنة، قال لـ”جنوبية”: “المنطقة امتلأت بالوافدين لإيجار المكاتب والشقق، مع نسبة أقل في الشراء”.
ورأى أن الحرب زادت الطلب على بدارو وفرن الشباك وعين الرمانة كمناطق متاخمة للضاحية.
وعن سبب ارتفاع الإيجارات رغم الخطر الأمني، يوضح شمعون: “المناطق المحيطة ببيروت صغيرة ومزدحمة وتضم مراكز أعمال، وهي قريبة من العاصمة، وهذا يجعل الطلب مرتفعًا رغم الخوف. الناس مضطرون للبقاء قريبين من أعمالهم، ولا يجدون بدائل”.
هبوط في المبيع… واستثمار في الإيجار
رغم أن سوق الإيجارات لم يتهاوَ بفعل الحرب الإيرانية – الإسرائيلية، إلا أن الانعكاس الأكبر طال سوق بيع العقارات، حيث سجّل تراجعًا ملحوظًا في الأسعار مع بدء الحرب. فالمستثمرون لا يبدون رغبة في شراء الشقق في الضاحية الجنوبية والمخاطرة في مناطق محتملة للاستهداف، ويفضّلون التوجه إلى مناطق أخرى أكثر استقرارًا.
مارون شمعون يُميّز بين مناطق الضاحية وفق درجة الخطورة: هناك مناطق خطيرة، وأخرى أشد خطرًا، وأخرى أقل خطورة. على سبيل المثال، صحراء الشويفات ليست بخطورة منطقة حارة حريك، وهو عامل مؤثر جدًا في تسعير العقارات. كما لا يغفل شمعون عن تأثير الأعداد الكبيرة للاجئين السوريين وتمركزهم في المناطق الشعبية المكتظة، مما يزيد من تعقيدات المشهد العقاري.
قرار حكومي يرفع شهية المستثمرين
أشار شمعون إلى نقطة إضافية تتعلّق بقرار حكومي صدر مؤخرًا يحدّد نسبة الإيجارات السنوية بـ8% من سعر العقار، ما ساهم في تحفيز المستثمرين على شراء العقارات بسبب العائد الاستثماري المرتفع. وفي بعض الحالات، ترتفع هذه النسبة لتصل إلى 10%، خصوصًا في المنازل الصغيرة الواقعة ضمن المناطق الشعبية التي تشهد طلبًا كثيفًا على الإيجارات.
فعلى سبيل المثال، تُؤجَّر شقة من ثلاث غرف في منطقة حي السلم أو برج البراجنة بمبلغ 300 دولار شهريًا، وهو مردود جيّد مقارنة بسعر العقار نفسه.
قرارات مغادرة المكان لم تعد مسألة تكتيكية مؤقتة، بل خيارًا حتميًا لأسر تسعى لحماية نفسها وسط غياب الطمأنينة في بلد اعتاد الأزمات.
هل يعود السوق إلى الحياة؟
ورغم التحديات، يعتقد شمعون أن السوق العقاري قد يشهد انتعاشًا فور توقف الحرب وعودة النشاط السياحي كما وعدت الحكومة، ووفقًا لما سُمع من وعود خليجية بدعم لبنان.
يشير إلى أن القطاع مرّ بأزمات متلاحقة في العام المنصرم، أبرزها غياب القروض المصرفية، ومشاكل في الدوائر العقارية والرسمية، وهي عوامل مباشرة تؤثر سلبًا أو إيجابًا في حركة السوق.
الإعمار والسياحة: رئة العقارات في لبنان
لا شك أن مستقبل القطاع العقاري في لبنان مرهون بعاملين أساسيين: إعادة الإعمار، وعودة النشاط السياحي. هذان العاملان يشكلان الرئة التي قد تُنعش هذا القطاع المتهالك، شرط أن يستقر الوضع الأمني والسياسي في البلاد.
اقرأ أيضا: حرب الأيام الـ12 بين إسرائيل وإيران: لا نصر حاسم ولا هزيمة كاملة…