رحلة إيران من بن لادن..إلى السنوار!

المفاوضات الاميركية الايرانية

في 10 كانون الثاني “يناير” من العام 2020، وبعد أيام من اغتيال قاسم سليماني القائد السابق لفيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، كتبت مقالًا في موقع “جنوبية” جاء فيه:

“اغتيال سليماني هو إيذان ببدء مرحلة جديدة تهدف إلى إعادة إيران إلى داخل حدودها، وكأن أميركا تريد أن تقول بأن اللعبة التي بدأت مع هجمات الحادي عشر من “سبتمبر” عبر الفوضى الخلّاقة قد انتهت، وعلى كل طرف التزام حدوده”.

اليوم تتأكد هذه النظرة أكثر مع وصول الطوفان أخيرًا إلى طهران، هي التي “تبرأت” منه في بداياته في تشرين الأول “أكتوبر” 2023، في محاولة لإبعاد ارتداداته الإقليمية وربما الدولية عنها، بعد أن أطلقت إسرائيل عبر جيشها عملية “السيوف الحديدية” التي لا تزال توغل في دماء الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين واليمنيين يوميًا، بعد أن تفتتت الساحات، وتبيّن أن وحدتها لم تكن أكثر من شعار ديماغوجي استعملته إيران لإبعاد الصفعة عن وجهها، لتتلقاها أذرعها في المنطقة، وأولها ذراعها الطويلة “حزب الله”، الذي انخرط وحيدًا، وربما مُرغمًا لا بطلًا، في حرب إسناد لغزة، كانت كفيلة بإنهاء أسطورته التي بناها على مدى 40 عامًا من العمل والقتال، الذي كلّف لبنان واللبنانيين، وبشكل خاص بيئته الحزبية والمذهبية، الكثير الكثير من التضحيات البشرية والاقتصادية والاجتماعية والمعنوية.

اغتيال سليماني هو إيذان ببدء مرحلة جديدة تهدف إلى إعادة إيران إلى داخل حدودها، وكأن أميركا تريد أن تقول بأن اللعبة التي بدأت مع هجمات الحادي عشر من “سبتمبر” عبر الفوضى الخلّاقة قد انتهت، وعلى كل طرف التزام حدوده

تجاهل الرسائل الأميركية وتكرار الخطايا

اليوم، ومع بدء الهجمة الإسرائيلية على إيران، تكون الأخيرة تدفع ثمن عدم فهمها، أو ربما – وهذا هو الأرجح – تجاهلها لرسالة اغتيال قاسم سليماني، خاصة مع عودة الديمقراطيين للحكم في الولايات المتحدة بعد خسارة دونالد ترامب لانتخابات عام 2020، وتسلُّم جو بايدن السلطة، وهو الذي كان نائبًا للرئيس الأميركي “العزيز” على قلب المحور، باراك أوباما، الذي أنهى رئاسته في العام 2016 بالتوقيع قبلها بعام على الاتفاق النووي مع إيران، بعد أن كان قد أطال بعمر النظام السوري عام 2013 تحت ذريعة نزع سلاحه الكيماوي بالاتفاق مع روسيا التي “لزّمها” الوضع السوري لاحقًا، كما غضّ الطرف عن التمدد الإيراني في اليمن، الذي يُعتبر الخاصرة الرخوة للمملكة العربية السعودية، التي اضطرت للدخول في حرب مع الحوثيين كلّفتها الكثير للدفاع عن حدودها وشعبها.

هكذا حاولت إيران “الاستثمار” مجددًا في عودة الديمقراطيين للحكم في أميركا، فكان أن استمرت في سياستها المتشددة والهجومية في المنطقة، سواء في سوريا حيث نجحت بتثبيت نظام بشار الأسد بالتعاون والتفاهم مع روسيا وتركيا، أو في اليمن عبر تكثيف الدعم للحوثيين وتثبيت حكمهم كذلك بعد الاتفاق الإيراني – السعودي في الصين الذي أوقف الحرب، أو لبنان عبر التحكم بالحكومات اللبنانية التي فرضها حلفاؤها بعد استقالة حكومة سعد الحريري في أعقاب ثورة 17 تشرين 2019 التي نجحوا في وأدها، وكذلك عبر تعطيل استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية عام 2022 عبر ذراعها حزب الله وحلفائه، في محاولة لإعادة استنساخ تجربة ميشال عون في العام 2016، وذلك في مقايضة واضحة مع الإدارة الأميركية الديمقراطية، تمثلت في توقيع اتفاق الحدود البحرية مع إسرائيل بطريقة مجحفة للبنان، أو حتى في غزة حيث استمر دعمها ولو من بعيد لسلطة حماس، وهي كلها نشاطات كانت تستعملها أوراقًا لتحسين شروط التفاوض على اتفاق نووي جديد مع الإدارة الأميركية.

من أسامة بن لادن… إلى السنوار

حتى كان “طوفان الأقصى”، الذي يبدو أنه “نجح” بأكثر مما توقعت إيران وأذرعها، فكان بمثابة “11 سبتمبر إسرائيلي”، ما قلب كل التوقعات والمخططات، وأفلت “الوحش” الصهيوني من عقاله، فكان الطوفان الصهيوني المضاد والمرتد بداية على غزة، مدعومًا بدعم أميركي وغربي كامل في بداياته، نتيجة الصدمة التي خلفها نجاح العملية والمظلومية التي أحسنت إسرائيل تسويقها، ما جعل إيران تتبرأ من مسؤوليتها عنه مباشرة، وبالتالي تَلَكُؤها وترددها في تطبيق نظريتها عن “وحدة الساحات”، باستثناء وضع حزب الله في الواجهة، وبطريقة محسوبة ومضبوطة. فكانت غلطتها الثانية – بعد غلطة تجاهل معنى اغتيال سليماني – التي تدفع ثمنها اليوم مباشرة، وذلك بعد أن تركت حماس وحزب الله لمصيرهما، ما أعطى إشارة ضعف أمام إسرائيل، وهو ما أدى بالتالي لسقوط النظام السوري، تمامًا كما أعطى عدم رد حزب الله على اغتيال صالح العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت إشارة ضعف وعجز عن خوض الحرب الشاملة، بعد أن كانت المعادلة “تل أبيب مقابل الضاحية”، الأمر الذي لم يحدث هذه المرة.

وهكذا بات ينطبق على إيران اليوم القول المأثور: “أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض”، والأبيض هنا هو حزب الله اللبناني، وزعيمه الراحل السيد حسن نصر الله، بكاريزميته وشخصيته الطاغية، الذي أثبتت الأحداث والتطورات أنه لم يكن فقط كما وصفناه سابقًا “دُرّة تاج المحور”، بل هو المحور كله فعليًا الذي انهار بانهياره، خاصة بعد أن فشلت إيران في حمايته أو حتى “الثأر” لزعيمه، نظرًا لمكانته الشعبية والرمزية الكبيرة، والذي كان بمثابة الذراع الباقية للمرشد الإيراني بعد اغتيال ذراعه الأولى قاسم سليماني.

اليوم يبدو – ولسخرية القدر – وكأن “11 سبتمبر الإسرائيلي” الذي فجّره يحيى السنوار، جاء ليمحو مفاعيل “11 سبتمبر الأميركي” الذي فجّره أسامة بن لادن، حيث كان الحدث الأميركي بداية الانفلاش الإيراني في المنطقة، بغض نظر أميركي وتنسيق في بعض الأحيان إن لم يكن في كلها، وذلك بعد إزالة حكم طالبان الأولى، بما كان يمثله من إزعاج لنظام الملالي في إيران من أفغانستان، وحكم صدام حسين في العراق، بكل ما كان يعنيه من قهر بالنسبة للإيرانيين، على يد الأميركيين.

“طوفان الأقصى” “نجح” بأكثر مما توقعت إيران وأذرعها، فكان بمثابة “11 سبتمبر إسرائيلي”، قلب كل التوقعات والمخططات، وأفلت “الوحش” الصهيوني من عقاله، فكان الطوفان الصهيوني المضاد

ليبدأ معها “العصر الإيراني” في المنطقة العربية التي ذاقت الأمرّين من هذا العصر، والباقي معروف، لتجد إيران اليوم نفسها في نفس وضع حركة “طالبان” عام 2001، ووضع نظام صدام حسين عام 2003، وفي أحسن الأحوال – إذا صمد النظام – قد تجد نفسها في وضع نظام صدام حسين بعد معركة “عاصفة الصحراء” عام 1991، بحيث يخضع برنامجها النووي للتدمير الكامل، يُضاف عليه اليوم برنامجها الصاروخي، الذي يبلي بلاءً حسنًا في المعركة الحالية، بحيث بات من المستحيل أن تسمح أميركا وإسرائيل ببقائه بعد اليوم، وقد يكون تدميره أحد أهم شروط وقف الحرب.

يبقى السؤال: ما هو مصير المنطقة والعرب بعد انقشاع غبار هذه المرحلة من “الطوفان”؟

هذا حديث آخر، وللحديث تتمة.

السابق
الجيش: عمليات دهم في بريتال وعرسال وتوقيف وضبط كمية كبيرة من الأسلحة والذخائر الحربية
التالي
خامنئي يرى دائرته المقرّبة تتآكل: من بقي على قيد الحياة؟