وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: النظام الإيراني أمام نموذجي الشرع أو طالبان

وجيه قانصو

وصل الملف النووي إلى الطريق المسدود، ولم يعد بإمكان جولات التفاوض الأمريكية – الإيرانية أن تستمر في ظل إصرار عنيد من الطرفين. طرف إيراني يعتبر أن التخصيب شأن سيادي حتى لو وصل إلى مستويات متقدمة تقترب من عتبة التسلح النووي، وطرف أمريكي ومعه المنظومة الغربية يشكك بنوايا النظام الإيراني ومسعاه المبطن لكسب الوقت في حيازة السلاح النووي، الأمر الذي يحدث خللاً في موازين القوى الإقليمية، ويولد هاجس بقاء وجودي فعلي لإسرائيل، ومخاوف غربية من زعزعة الاستقرار الإقليمي وربما الدولي.

انهيار المسار الدبلوماسي والذهاب نحو المواجهة

انسداد أفق التفاوض مع تفاقم المخاوف وانعدام الثقة المتبادلة، يعني بعد انعطاب العمل الدبلوماسي أن خيارات المواجهة باتت حتمية لخلق معادلات جديدة وموازين قوى مباينة للراهن. فالنظام الإيراني هو المستفيد الوحيد من الوقت الضائع الذي يُبقي الأمور في حالة اللاحسم واللايقين، لغرض امتصاص الاندفاع الغربي في لجم شهية التوسع الإيراني والتضييق على نشاطه النووي. أما الغرب فبات متوجساً من مباغتة النظام الإيراني للعالم بامتلاكه القوة النووية التي توفر غطاء ردعياً للنظام وتغريه برفع سقف تطلعاته الأيديولوجية العابرة لحدوده.

المعني الأساسي بالملف النووي هي دولة إسرائيل، التي ترى فيه خطراً وجودياً لها. فازدياد نسبة التخصيب يرفع منسوب الخوف ويصعد القلق وربما الارتعاب الإسرائيلي، بحكم أن وصول النظام الإيراني إلى عتبة التسلح النووي يمثل نقطة لا عودة، تفرض إيران كدولة ذات تسلح نووي أمراً واقعياً، وبمثابة شبح رعب وتهديد دائمين مسلطين على إسرائيل وشعبها. ما يجعل عبء إزالة مخاطر التخصيب النووي ملقياً على إسرائيل، بل يجعلها بحكم جهوزيتها وتفوقها التكنو-عسكري الأكثر أهلية للقيام بهذه المهمة.

لا يمكن تصور أداء إسرائيلي في حربها الحالية ضد إيران، بهذا العمق والسعة والخطورة، من دون الشريك الأمريكي. قد يختلفان في تفاصيل الأداء لكنهما متطابقان في الاستراتيجيا والرغبة المشتركة في خلق معطيات جديدة بعد فشل مفاوضات الملف النووي. فالإسرائيلي معني بتوفير شروط أمن لشعبه، والولايات المتحدة مسؤولة عن منطقة شرق أوسط مستقرة وهي مرجعية حصرية في دوزنة إيقاع دول المنطقة ووضع الأطر الناظمة لها. ما يجعل مهمة ضرب المشروع النووي واحدة عن الطرفين، ويفرض حلفاً وتنسيقاً كاملين بينهما في إدارة الحرب لإحداث تحولات نوعية ترغم الإيراني إما التخلي عن برنامجه أو القبول بشروط رقابة قاسية وتحكم مذل في استخداماته النووية.

مسار الحرب الجارية بين إسرائيل وإيران تصاعدي، لا يبدو حتى الآن أنه متجه نحو إسقاط النظام الإيراني، بقدر ما يتجه إلى شل قدراته وإرغامه تحت وطأة الضربات النوعية والاستراتيجية على القبول والتسليم بالشرط الأمريكي – الإسرائيلي. فإسرائيل باتت منذ إطلاق الحرب شريكاً في مفاوضات الملف النووي الإيراني وصانعاً لأجندتها، ليس بالضرورة بنحو مباشر، وإنما مشاركة الأمريكي في وضع الشروط والقيود على النظام الإيراني التي تزيل شبح التهديد النووي لوجودها وبقائها. بحيث لا تقتصر الشروط لاحقاً على النشاط النووي لإيران، وإنما على نظام صواريخها وطريقة أدائها وتطلعاتها الإمبراطورية.

المعني الأساسي بالملف النووي هي دولة إسرائيل، التي ترى فيه خطراً وجودياً لها. فازدياد نسبة التخصيب يرفع منسوب الخوف ويصعد القلق وربما الارتعاب الإسرائيلي،

انكشاف إيران وتآكل الردع الخارجي

النظام الإيراني الآن يعمل على استيعاب الضربة الإسرائيلية الخاطفة والمفاجئة، ويراهن على قدرة صمود طويلة الأمد مهما كانت خسائره المادية والبشرية، ليثبت للخصم والعالم عجز الخصم الإسرائيلي – الأمريكي عن كسر إرادته وإخضاعه. فالصمود المدعم بمحفزات عقائدية وتعبئة دينية، إضافة إلى عدم إلقاء كامل قدراته الصاروخية وطاقته العسكرية في المعركة، يضمن لنفسه قدرة صمود صلبة وطويلة الأمد.

بيد أن هذا الرهان مجرد ادعاء إعلامي وتهويلي لا تؤيده معطيات الصمود الموضوعية. فالحرب طويلة الأمد تعرض مخزون النظام الإيراني للنفاذ، ما يضعف قدراته على الرد المؤذي لإسرائيل. أما إسرائيل فالجسر الجوي المفتوح بينها وبين الولايات المتحدة، وربما بريطانيا وفرنسا لاحقاً، يبقيها في كامل قدراتها وجهوزيتها وفعاليتها. كما إن انضمام الولايات المتحدة إلى الحرب الدائرة لتسريع وتيرة الحرب وحسمها يبقى وارداً بنسبة احتمال عالية. أضف إلى ذلك، أن إيران تحارب من دون حلفاء، فالروسي يعرض نفسه وسيطاً، والصين خارج المشهد وغير معنية بما يحصل، ما يجعل النظام مكشوف الظهر، ويفرض عليه الإيراني عزلة خانقة تقطع خطوط الدعم والإسناد الخارجيين، وتحول دون تشكل جبهة دولية داعمة أو مؤيدة أو مدافعة عنه.

ويمكن القول، إن مصدر قوة النظام الإيراني كانت في تمدده عبر أذرعه خارج حدود إيران، ما وفر له مادة قوة وعناصر ضغط يمكن توظيفها في أية عملية تفاوضية أو مواجهة ضد خصومه. وقد وصل زخم هذا النفوذ إلى ذروته في حملة طوفان الأقصى، ثم أخذ هذا النفوذ يتراجع وينحسر بفعل الحسابات الخاطئة التي تسببت بانتكاسات متلاحقة لحماس وحزب الله والحوثيين ثم سقوط النظام السوري، ليفقد النظام الكثير من قدراته وعناصر قوته وردعه، ويتقلص مداه الاستراتيجي إلى حدوده الطبيعية، وينتقل من صانع رئيسي للمشهد الإقليمي إلى مدافع عن وجوده وبقائه. بحيث باتت سماء إيران، التي فقد النظام سيطرته عليها، وأرضها الشاسعة التي يتلهى الطيران الإسرائيلي في ضرب أهم مرافقها، هي أرض المعركة وساحة الحرب الفعلية.

أمام هذا التحول الخطير، ومع استمرار الحرب بهذه الضراوة، لا يعود الملف النووي نقطة الرصد الوحيدة، بل يصبح مصير النظام الإيراني على المحك، مع انكشافه دولياً وغياب سند فعلي له، وبعد التآكل التدريجي لقدراته والتدمير الممنهج والممدمر لمفاصل قوته. فإسرائيل ماضية، بتأييد ودعم أمريكي لا سقف له، ولا يبدو أنها ملتزمة بأية خطوط حمراء في تصعيدها ضد إيران، بما فيها سلامة قائد ومرشد النظام الإيراني نفسه.

مع استمرار الحرب بهذه الضراوة، لا يعود الملف النووي نقطة الرصد الوحيدة، بل يصبح مصير النظام الإيراني على المحك، مع انكشافه دولياً وغياب سند فعلي له

هذا يضع النظام الإيراني أمام خيارين: إما مصير يشبه نظام الأسد، فيما لو قرر الاستمرار في المواجهة حتى النفس الأخير، ليتم البحث جدياً عن بديل فاعل للنظام يحاكي نموذج أحمد الشرع في سوريا، وإما التسليم الطوعي بالشروط الجديدة التي لا تقتصر على البرنامج النووي، وإنما التخلي الكامل عن طوباوية الفكر الثوري الذي ظل يداعب مخيلته ويوجه سياساته منذ استلامه السلطة، أي حكم مدجن يحاكي النسخة المعدلة والمحدثة لحكم طالبان الجديد. في كلتي الحالتين، نشهد نهاية مأساوية لمشروع حالم دام أكثر من خمسين سنة، تكسرت وعوده وادعاءاته وتصدعت يقينياته عند أول اختبار فعلي للقوة.

اقرأ ايضا: حرب إيران وإسرائيل: نهاية زمن الوكالة وبداية صراع البقاء

السابق
قماطي: إعلان إسرائيل عن رصدها تحركات لاستعدادات حزب الله للتدخل بالحرب ذرائع كاذبة
التالي
إسرائيل وإيران: حرب بين إدراكين