
لا توجد في التاريخ حروب متسرعة او ارتجالية، حتى الحرب المباغتة هي حرب ذات تخطيط عالٍ، يسبق في الغالب شن الحرب بسنوات، باعتبار أن التخطيط للحروب يدخل في الثقافة الاسراتيجية للدول، أما شنها أو كيفية تنفيذها، لناحية التوقيت وحشد الامكانات فمسألة اخرى. قد تقع الحرب في السياسة قبل اندلاعها على الجبهات. فلكل دولة عقيدة قتالية تشخّص من خلالها العدو، ما يعني أن معرفة دولة ما لعدوها يؤكد نفي الارتجالية عن فعل الحرب او التخطيط لها. للحروب ادراكاتها التي هي بطبيعة الحال ادراك للمخاطر والتهديدات، وهذا ما يتيح لنا التساؤل: لماذا تُخاض الحروب، وكيف تعرّف الدول المتحاربة نفسها من خلال مصالحها، وكيف تدرك مكامن قوتها وضعفها، كذلك قوة وضعف عدوها وكيف تترجم ذلك على الجبهات، وهل تعتبرها حرب وجود، أم حرب استجلاب التسويات؟
حرب الفصل الأخير
فما يحدث بين إيران وإسرائيل هو فصل أخير من فصول المواجهة في الشرق الاوسط منذ عملية “طوفان الاقصى” والحرب على لبنان، وهي حرب غير مسبوقة بطبيعتها، لناحية البعد الجغرافي للجبهات، أو لناحية نوعية الاسلحة المستخدمة، ما يؤكد أن تلك الحرب هي حرب بين ادراكين، ادراك اسرائيل للحرب وأهدافها، وادراك ايران للهجوم الاسرائيلي عليها والغاية منه.
لا مبالغة في القول، إنها في الجوهر حرب وجودية وصراع بقاء لطرفيها، إذ لا يمكن الحديث عن تحقيق أهداف ما، إذا كان بقاء الدولة نفسها في خطر، وهذا أول ادراكات الاستراتيجية العسكرية التي تحدد الاهداف، والوسائل وطرق استخدامها لحماية الامن الوطني، وهي عناوين تشكل ركيزة كلّ فكر استراتيجي ( Ends, Means, Ways (.
تعتمد إسرائيل في حماية نفسها على نهج من الدفاع قائم على تحقيق أقصى حد ممكن من التفوق العسكري تجاه دول الشرق الاوسط مجتمعة، وهي في هذا تعتمد على نسق الدفاع الاحادي، بما تملك من قدرات، اضافة الى اعتمادها عند الضرورة على دفاع متعدد الاطراف يساعدها في تحقيق أمنها ويحافظ على تفوقها، وهذا ما نختبره راهناً عند محاولة اسقاط الصواريخ الايرانية المتجهة صوب اسرائيل، إذ في كثير من الاحيان تتم من خلال تعاون مع قوى حليفة لها تملك وسائل دفاعية متطورة، تساعدها في صد الهجمات الصاروخية وإبطال مفعولها او التخفيف من تداعياتها.
وقد عملت اسرائيل منذ قيامها على منع أي دولة في الشرق الاوسط من امتلاك القدرة على انتاج السلاح النووي، لا فرق هنا بين دولة صديقة أو عدوة، على اعتبار أن الصداقة والعداوة متغيران، فإيران الشاه كانت دولة صديقة ثم تحولت بعد سقوط نظامه الى دولة تصنّف بعداوتها لإسرائيل.
أما فيما يخص إيران، فيتمثل إدراكها لهذه الحرب في محظور الحديث عن فكرة اسقاط النظام من خلال العدوان عليها، ذلك ما تعتبره الخط الاحمر غير المسموح به. لذا نجد أن قوة الرد الايراني على الهجوم الاسرائيلي يعبر عن هذا الادراك خير تعبير. فقد سبق لنتنياهو إبان حربه ضد “حزب الله” في أيلول 2024 أن توجه للشعب الايراني قائلاً ” لا تسمحوا لحفنة من الحكام الدينيين بسحق تطلعاتكم وأحلامكم، عندما تتحرر إيران أخيراً وسوف تأتي تلك اللحظة أسرع بكثير مما يتصوره الناس، فإن كل شيء سيكون مختلفاً”، هذا الكلام اعتبرته وقتها القيادة الايرانية تدخلاً خطيراً في شؤونها وتجاوزاً للخطوط الحمر، فقامت بالرد عليه، بقصفٍ صاروخي فاق التوقع، لم تقم بمثله حتى عند قيام اسرائيل باغتيال قادة المحور نفسه.
وقد عملت اسرائيل منذ قيامها على منع أي دولة في الشرق الاوسط من امتلاك القدرة على انتاج السلاح النووي، لا فرق هنا بين دولة صديقة أو عدوة،
حرب ما قبلها ليس كما بعدها
إن صورة النظام الايراني داخل إيران تبرز من خلال اقناع الشعب بقوة استمراره، كهدف لا يعلوه هدف آخر، تحشد له القيادة الايرانية كل امكاناتها من خلال اعتماد التمدد الاقليمي وفرض نفوذ من خلال حلفائها في المنطقة، وقد اعطى هذا النسق من الدفاع عن الوجود مظهراً قوياً لإيران وحضوراً نافذاً في الداخل والخارج، تباهى به قادتها بشكل بارز ومعلن على انها قوة اقليمية صعب تجاوزها.
كما وقد حوّلت قضية امتلاك الطاقة النووية الى مسألة فخر قومي، لا يمكن التنازل عنه أو او المساومة عليه، وبالمناسبة إن مشروع النووي الايراني من اقدم البرامج، بدأ عندما حصل الشاه محمد رضا بهلوي على مفاعل صغير من الولايات المتحدة سنة 1959، بعد ان فرضت عليه التوقيع على معاهدة حظر الانتشار النووي سنة 1968. وقد صرّح الشاه بعد نجاح الهند باختبار قنبلتها النووية سنو 1974 بأن ايران قد تمتلك قنبلة نووية يوماً ما.
في الواقع إن الولايات المتحدة والغرب عموماً، لا يخافون من فكرة امتلاك ايران للسلاح النووي، فقد لمجرد الامتلاك، انما مخاوفهم تتاتى من أن يفتح هذا الامر الباب امام سعي دول اخرى مجاورة لإيران عربية وغير عربية الى بناء قدرات نووية ذات بعد عسكري، فتدخل المنطقة في سباق تسلح غير تقليدي يعرض الشرق الاوسط لمخاطر جسيمة، حيث المصالح الحيوية للغرب، والتي لا يمكن التساهل حيالها.
إن صورة النظام الايراني داخل إيران تبرز من خلال اقناع الشعب بقوة استمراره، كهدف لا يعلوه هدف آخر، تحشد له القيادة الايرانية كل امكاناتها من خلال اعتماد التمدد الاقليمي وفرض نفوذ من خلال حلفائها في المنطقة
امام اعين الرئيس دونالد ترامب، المواجهة العسكرية آخذة في التصاعد، والحرب تتبدل اهدافها او تتقدم اهداف على اخرى، وبالنسبة لإسرائيل أصبح كل شيء على الطاولة بما فيها التخلص من النظام نفسه، وأيران كقوة اقليمية أدركت أن اسقاط نظامها بات على المحك، لذا هي تقصف بقوة، والشرق الاوسط بعد انتهاء الحرب لن يكون كما قبلها، وبالتالي ثمة نظام اقليمي شرق اوسطي جديد خالٍ على ما يبدو من الكثير من الشعارات التي وسمت علاقاته الدولية لعقود.
اقرأ ايضا: حرب إيران وإسرائيل: نهاية زمن الوكالة وبداية صراع البقاء