
تشكِّلُ الضرباتُ «الإسرائيليَّةُ» المستمرَّة منذ فجر اليوم، الجمعة، تحتَ عُنوان «الأسد الصَّاعد» لحظةً مفصليَّةً في تاريخ النِّظام الإيرانيِّ ومستقبلِ المنطقة أيضًا.
في الواقع، إنَّ الذي قامت به «إسرائيل» هو إعلانُ حربٍ على إيران، وهو ما كانت تُخطِّط له وتسعى إليه منذ فترةٍ طويلة.
نفذّت «إسرائيل» ما أسمتْه بـ «الضربة الافتتاحية» مُستلهمةً سيناريو الهجوم الواسع على حزب الله الذي بدأ مع تفجيرات البيجرز يومَ 17 أيلول 2024، مع فارقٍ وحيدٍ هو أنَّ ما فعلتْه «إسرائيل» بحزب الله خلال أسبوع فعلتْه اليومَ مع إيران في يومٍ واحدٍ، بل في ساعاتٍ قليلة.
لم تزل إيران، حتى اللحظة، بالصورة المُثيرة للسُّخرية، والتي توحي بأنَّها أيضًا تستلهم سيناريو حزب الله الذي لم يُدرك حجم الحدث حينَها وظنَّ أنَّ «حرب الإسناد» ستسير كما يُريدُ هو
بدأ الهجومُ على إيران بعمليَّةٍ أمنيةٍ استخباراتيَّةٍ لجهاز الموساد، خُطِّط لها بعنايةٍ، تمامًا كما جرى في عمليتَيْ البيجرز واللاسلكي في يومي 17 و18 أيلول 2024. فقامتْ مجموعةٌ من الموساد بالعمل من داخل الأراضي الإيرانية على تدمير تجهيز المسيرات التي ساهمت في الهجوم مُنطلقةً من داخل إيران. ثُمَّ نفَّذتْ عملياتِ اغتيالٍ واسعة طالتْ الصفَّ الأوَّل من القيادات العسكرية في الحرس الثوري وفي الجيش الإيراني، أبرزهم قائد الحرس الثوري حسين سلامي ورئيس الأركان محمد باقري إضافةً إلى علي شمخاني مستشار خامنئي. وهو السيناريو نفسَه الذي جرى باغتيال قيادة قوَّة الرضوان في حزب الله بتاريخ 20 أيلول.
إقرأ أيضا: طهران تُغلق باب التفاوض: «شمخاني اغتيل والمحادثات انتهت»!!
كما قامتْ «إسرائيل» بشن هجمات واسعة النِّطاق على مواقع عسكرية ونووية حسَّاسة في حوالي 12 محافظة إيرانية، تمامًا كما جرى في 23 أيلول. وبعد مرور أكثر من اثنتَيْ عشر ساعة على بدء الهجوم، لم تزل إيران بالصورة المعهودة فيها، فهي تُهدِّدُ الولايات المُتحدة وتُوحي برفضِها للعودة إلى المفاوضات معها.
لم تزل إيران تتعاطى مع الأمر كأنَّه مناوشةٌ أو مُحاولةٌ أميركيَّةٌ للضَّغطِ عليها عبر «إسرائيل» من أجل تقديم تنازلات في المفاوضات
لم تزل إيران، حتى اللحظة، بالصورة المُثيرة للسُّخرية، والتي توحي بأنَّها أيضًا تستلهم سيناريو حزب الله الذي لم يُدرك حجم الحدث حينَها وظنَّ أنَّ «حرب الإسناد» ستسير كما يُريدُ هو.
لعلَّ هذه هي المرَّة الأولى التي تضطرُّ فيها إيران للدُّخول في مواجهةٍ مُباشرةٍ مع «إسرائيل». وفي الواقع، إنَّ مسارَ الأمور بعدَ عمليَّة «طوفان الأقصى» يؤكِّدُ أنَّ الضَّربةَ على إيران كانت في كُلِّ يومٍ تزدادُ حتميَّةً.
كانت لحظة السابع من أكتوبر لحظةً تاريخيَّةً لإيران ومحورِها لتنفيذ «تهديداتِها» ضدَّ «إسرائيل». بيدَ أنَّ إيران، أمام الحشد الدولي الذي حشدتْه «إسرائيل» يومَها وأمامَ الأساطيل الأميركية التي غصَّ بها البحر الأبيض المتوسِّط، اختارتْ التَّريُّثَ والتَّراجُعَ عن دخول المعركة في تلكَ اللَّحظة التي كانت فيها إيران أمامَ خيارَيْن؛ الدُّخول القوي والمباشر لها ولأذرعها، أو الخيار الذي اختارتْه بخوض المعركة عبر أذرعها والاحتفاظ لنفسِها بدور المايسترو. ربما كانت إيران تعتقد أنها بذلك تحمي نفسها عبرَ إبعاد المعركة عن أرضها، بيدَ أنَّها كانت باختيارِها هذا تلفُّ الحبلَ حولَ عنقها.
تركتْ إيران كُلُّ أذرعها تخوضُ المعركة منفردةً؛ كان حزب الله طيلة حرب الإسناد ملتزمًا بـ «قواعد الاشتباك»، كما صرَّح بذلكَ مرارًا أمينُه العام الأسبق السيد حسن نصر الله. ولا يخفى أنَّ هذا الالتزام كان نتيجة التزام الحزب بالاستراتيجية والحسابات الإيرانيَّة.
في هذه الفترة تمكَّنت «إسرائيل» من ضرب حماس بشكلٍ ساحقٍ بحيثُ لم تعدْ تُشكِّلُ خطرًا عليها، ثم انتقلتْ إلى التَّصعيد مع حزب الله وشنَّتْ حربَها الشَّاملةَ في 23 أيلول بعد أشهرٍ طويلةٍ من اغتيال الكوادر الوسطيَّة في الجنوب. وبعدَ عشرة أيَّامٍ من استسلام حزب الله وقبوله بوقف إطلاق النَّار سقطَ نظام بشَّار الأسد، فخسرت إيرانُ سوريا وقُطِعتِ الطَّريقُ التي تربطُ طهران ببيروت.
تركتْ إيران كُلُّ أذرعها تخوضُ المعركة منفردةً؛ كان حزب الله طيلة حرب الإسناد ملتزمًا بـ «قواعد الاشتباك»، كما صرَّح بذلكَ مرارًا أمينُه العام الأسبق السيد حسن نصر الله. ولا يخفى أنَّ هذا الالتزام كان نتيجة التزام الحزب بالاستراتيجية والحسابات الإيرانيَّة
ثُمَّ شنَّتْ الولايات المتَّحدة وبريطانيا هجماتٍ واسعةً على الحوثيين في اليمن، أدَّتْ في نهاية الأمر إلى وقف الأعمال العسكرية الحوثية في البحر الأحمر والإبقاء على صاروخٍ باليستيٍّ يُطلقُ على تل أبيب بين الفينةِ والأخرى. ثُمَّ استكملتْ «إسرائيل» ما بدأتْه أميركا، فشنَّتْ هجماتٍ قويَّةً على اليمن. كُلُّ هذا وإيران كانتْ مشغولةً في مفاوضاتها النووية مع الولايات المتحدة، والتي كانت تُشكِّلُ الحلَّ الوحيد للنِّظام الإيرانيِّ للخروج من مأزقه الوجوديِّ. بالتَّالي، حين سمحتْ إيران بهزيمة أذرعها دون أن تتدخَّل بشكلٍ مباشرٍ، سواءٌ كان هذا السَّماح ناتجًا عن عدم قدرتها على التدخُّلِ أو عن قناعتها بأنَّ إبعادَ المعركة عنها سيحمي نظامَها؛ في الحالتَيْن يمكنُ القولُ أنَّ إيران أخطأتْ خطأً استراتيجيًّا في عدم دخولِها بشكلٍ جديٍّ في عمليَّة «طوفان الأقصى»، وبينما كانتْ أذرعُ إيران تُهزمُ كُلًّا على حِدة، كانت إيران تخسرُ خطوطَها الدِّفاعية واحدًا تلو الآخر.
إيرانُ اليوم، و«الشَّرقُ الأوسطُ» من ورائها، في لحظةٍ مفصليَّةٍ جديدةٍ. ورغمَ أنَّ هذه اللحظةَ قد تكون أكثر مفصليَّةً وتاريخيَّةً من لحظة السَّابع من أكتوبر، إلَّا أنَّها في الوقت نفسه نتيجةٌ من نتائجها الكارثية على المنطقةِ برُمَّتِها.
لم تزل إيران تتعاطى مع الأمر كأنَّه مناوشةٌ أو مُحاولةٌ أميركيَّةٌ للضَّغطِ عليها عبر «إسرائيل» من أجل تقديم تنازلات في المفاوضات.
ولعلَّه باعثٌ على الضَّحكِ أنَّ «إسرائيل» تتحدَّث عن حرب قد تستمرُّ لأسبوعين بينما تتحدَّثُ إيرانُ في المُقابلِ عن ردٍّ قاسٍ فقط لا غير، ما يوحي أنَّ إيران لا تتعاطى مع الأمر كإعلانٍ للحرب عليها. لكن المعطيات المتوفِّرة حتى الساعة توحي بأنَّ دور إيران في المنطقة قد انتهى مع سقوط الإسلام السياسي السُّنِّي، إذ لم يعد ثمَّة حاجةٌ لإسلامٍ سياسيٍّ شيعيٍّ مُقابلَه.
كما أنَّ إيران لا تمتلكُ من الحضور الاقتصاديِّ ما يضمنُ لها مكانًا على الطاولة كتُركيا مثلًا، ولا من القوَّة العسكريَّة كـ «إسرائيل»، باعتبار القوى الثلاث هذه هي المعنية بصراع النفوذ في الشَّرق الأوسط. لم تكن تملكُ إيران سوى البرنامج النَّووي للتَّفاوضِ عليه، بعد خسارتها على مستوى الأذرع والأوراق الطائفيَّة. واتِّخاذُ القرار «الإسرائيلي» الأميركي بتدمير البرنامج النَّووي الإيراني والصواريخ البالستية يعني عمليًا إسقاط كلِّ الأوراق التَّفاوضيَّةِ المتبقيَّة لدى إيران، ليكونَ الحديثُ بالتَّالي ليس عن طبيعة وشكل ودور إيران الجديد في المنطقة، بل عن وجودِ النِّظام الإيراني نفسِه. توحي الأجواء والأحداث المتسارعة بأنَّ القرارَ بإسقاطِ النِّظام الإيرانيِّ قد اتُّخذَ بالفعل، أو أنَّه قابَ قوسٍ واحدٍ من ذلك.
إنَّ الموقف الذي ستتخذُه إيران اليوم، سيُحدِّدُ وجودَها من عدمِه. أمَّا الحديثُ عن العودةِ إلى المفاوضات مع أميركا، فهو أقربُ إلى الخيالِ. إذْ ليس لدى النِّظامِ الإيرانيِّ حاليًّا ما يُفاوضُ عليه سوى وجودِه
قد لا يكونُ إسقاطًا على طريقةِ إسقاط نظام صدَّام حسين، لكنَّه سيكون على مبدأ إعادة إيران إلى إيران، الأمر الذي يجعلُ من سقوط النِّظام أمرًا شبه حتميٍّ.
لذلكَ، إنَّ الموقف الذي ستتخذُه إيران اليوم، سيُحدِّدُ وجودَها من عدمِه. أمَّا الحديثُ عن العودةِ إلى المفاوضات مع أميركا، فهو أقربُ إلى الخيالِ. إذْ ليس لدى النِّظامِ الإيرانيِّ حاليًّا ما يُفاوضُ عليه سوى وجودِه. وبالتَّالي، إذا سارت الأمور نحو التسوية فإنَّ أقصى ما ستحصل عليه إيران هو وقفٌ للحربِ، وبالتالي هي ستذهبُ إلى ما يُشبه وقفًا لإطلاق النَّار يُعيدُها إلى حدودها الجغرافيَّة ويُخرجُها من حدودِها الجيوسياسية.
إقرأ أيضا: حتى آخر شيعي؟ لن نموت من أجل إيران!
الأمرُ مرهونٌ بالخطوة الإيرانيَّةِ المُنتظرة؛ بتصعيدِها المُحتمَل وجدواه عسكريًا، أو بجدوى رضوخِها المُحتمل أمام الحديث عن رغبةٍ «إسرائيليَّة» في تغيير النِّظام الإيراني. بيدَ أنَّ وجود النظام الإيراني لا يُغيِّرُ في موازين القوى في المنطقة شيئًا، إذْ أنَّ سقوطَ النِّظامِ أو بقاءَه لا يُغيِّرُ في واقعِ أنَّ الشَّرقَ الأوسطَ قد دخلَ عصرًا جديدًا هو ختامٌ لمرحلة الغليان التي تَلَتْ اجتياحَ العراق عام 2003؛ عصرًا جديدًا تحتلُّ فيه «إسرائيل» الشَّرقَ الأوسطَ دونَ أنْ تخرجَ من “حدودِها” الصُّغرى!
النِّظامُ الإيرانيُّ اليوم أمام خيارَيْن لا يبدو أنَّ له ثالثًا لهما: إمَّا أنْ يدخُلَ إلى الجغرافيا الإيرانيَّة، وإمَّا أنْ يدخلَ إلى كُتُبِ التَّاريخ!