
كان يُخشى، بل كان يُرجح أن يتصرف الرئيس الأميركي دونالد ترامب في السعودية مثل جابي ضرائب، أو حتى مثل محصّل جزية، على غرار ما فعل خلال لقائه في البيت الأبيض العام 2018 ، مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، عندما عرض أمام الصحافيين لوحة تمثل “الصفقات” التي عقدتها أميركا مع السعودية، بوصفها “خدمات مجانية” أميركية، آن الأوان أن يسدد السعوديون ثمنها. وقد عبّر ذلك المشهد في حينه عن ذروة الابتزاز العلني الأميركي لدولة حليفة لأميركا، وعن شخصية الرئيس الأميركي الجديد يومها، الذي لا يقيس المعايير السياسية وحتى الأخلاقية..إلا بالمال وحده.
جاء ترامب الى الرياض، مصطحباً نصف وزراء حكومته، ونحو عشرين من كبار رؤساء شركات التكنولوجيا والصناعات المدنية والعسكرية، الذين باتوا صناع القرار في أميركا، وراسمي استراتيجياتها للعقود المقبلة
كان تلك الخشية مبنية على اللقاء الشهير الذي عقده ترامب في البيت الأبيض أيضاً مع الرئيس الاوكراني فولودمير زيلنسكي قبل شهرين، وانتهى بفضيحة خرقت قواعد اللياقة الدبلوماسية، وهددت التحالفات الغربية، الأميركية- الأوروبية والاطلسية، قبل ان يتراجع الرئيس الأميركي المتهور والسليط اللسان، مؤخرا، ويكتشف أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو المعتدي على أوكرانيا، وهو الذي لا يريد انهاء الحرب معها، بل يود السيطرة عليها كلياً، وليس فقط شبه جزيرة القرم التي سبق لترامب أن “أهداه إياها”، شرط أن يوقف إطلاق النار.
هذه المرة يبدو ترامب، وكأنه رئيس دولة عميقة، وليس مجرد مدير شركة تحصيل أموال وإستثمارات. هدف من زيارته الخارجية الأولى ( في ولايته الثانية) الى الارتقاء بالحلف القديم بين أميركا والسعودية، والذي يعود تاريخه الى مطلع القرن العشرين، الى مستويات تتخطى أي شراكات او تحالفات نسجتها الولايات المتحدة، مع أوروبا الغربية والشرق الاسيوي، منذ الحرب العالمية الثانية، وباتت المملكة السعودية في مرتبة حليف يتقدم، بالاقتصاد والسياسة وربما الامن لاحقاً ، على مختلف دول حلف شمال الأطلسي، وينافس دولا كبرى مثل الهند وكوريا الجنوبية، ويؤدي دوراً ريادياً في العالمين العربي والإسلامي، رسخته تجربة العقد الماضي.
هذه المرة يبدو ترامب، وكأنه رئيس دولة عميقة، وليس مجرد مدير شركة تحصيل أموال وإستثمارات. هدف من زيارته الخارجية الأولى ( في ولايته الثانية) الى الارتقاء بالحلف القديم بين أميركا والسعودية، والذي يعود تاريخه الى مطلع القرن العشرين
بهذا القرار جاء ترامب الى الرياض، مصطحباً نصف وزراء حكومته، ونحو عشرين من كبار رؤساء شركات التكنولوجيا والصناعات المدنية والعسكرية، الذين باتوا صناع القرار في أميركا، وراسمي استراتيجياتها للعقود المقبلة.
إقرأ أيضا: الخارجية الأميركية: لقاء ترامب والشرع كان أشبه بـ«لحظة تاريخية».. ماذا حصل خلال اللقاء؟
قدمهم ترامب الى ولي العهد السعودي واحداً تلو الاخر، وأعلن ان هؤلاء “الكهنة” سيعودون الى واشنطن محملين بالشيكات، التي تقدر قيمتها بتريليون دولار، لكنهم سيستثمرون أيضا بما يقارب التريليون دولار أيضا في السوق السعودية الناهضة.
هي “صفقة القرن” الجديد بين أميركا والسعودية، التي لا تقتصر فقط على مئات مليارات الدولارات التي تطايرت بالأمس في سماء الرياض، لكنها تعلن تحديث ذلك الحلف القديم بين البلدين، بالسياسة أيضاً، حيث نحيت جانباً دول حليفة لأميركا مثل إسرائيل، التي تركتها إدارة ترامب وحيدة في حربها مع اليمن، وعبرت عن استيائها من الخطط الإسرائيلية لتجديد حرب غزة، ولجأت الى خيار التفاوض مباشرة مع حركة حماس لاستعادة الأسير الأميركي لدى حركة حماس، عيدان الكسندر، وقررت رفع العقوبات عن سوريا وحكامها الجدد، بعدما بالغ الإسرائيليون طوال الأشهر الخمسة الماضية في التدخل العسكري والسياسي في العمق السوري.
إقرأ أيضا: ترامب يلتقي الشرع في الرياض.. الخارجية الاميركية: مُنحت سوريا فرصة حقيقية!
التباعد الأميركي عن إسرائيل، أو بتعبير أدق، النأي بالنفس عن مغامراتها العسكرية والسياسية العشوائية طوال العامين الماضيين، هو بمعايير السياسة الآنية، مكسب سعودي وعربي لا شك فيه، حتى ولو كان مؤقتاً أو عابراً، ولا يمس جوهر العلاقة الفريدة بين الشعبين الأميركي والإسرائيلي.. لا سيما وأنه لا يمس خطط التعامل مع إيران التي ستظل قيد الاختبار، هي وبقية وكلائها العرب، من حركة حماس الى حزب الله الى الحركة الحوثية، حتى تسلم مفاتيح برنامجها النووي المثير للجدل.