سوريا أمام خياري التديين أوالتمدين..

وجيه قانصو
رغم محاولات النظام الجديد رفع العقوبات التي فرضت على سوريا منذ زمن بشار الأسد، ومسعاه الحثيث لانتزاع الاعتراف الدولي بالوضع الجديد، وجهوده الصلبة لتأمين الاستقرار الداخلي. فالنظام الحالي يعطي أولوية لشرعيته الدولية والمحلية، لكنه يتجنب الخوض ويصادر النقاش حول مباديء الشرعية السياسية وطريقة تداول السلطة وحقيقة النظام السياسي الجديد المعتمد، ما يجعل مفهوم الدولة بمعناه المعاصر ملتبساً وغامضاً.

لا ذكر للديمقراطية بالاعلان الدستوري الجديد في سوريا، رغم الإكثار من مفردات الحقوق والواجبات وحرية المعتقد التي تقبل الاندراج داخل فهم عقائدي أو تفسير أيديولوجي خاص، ولا ذكر للشعب بصفته مصدراً للسلطات رغم استفاضة الحديث عن وحدة سوريا واحترام حقوق مكوناتها، ولا اعتراف بالفرد ككائن حر مستقل وصانع مصيره.  كما إن السلطة الواسعة التي منحها الإعلان الدستوري لرئيس الجمهورية الحالية، يوحي بإعادة إنتاج سلطة مركزية تتمحور جميع مقدرات سوريا الأمنية والاقتصادية حولها.

القبض على السلطة

إن تمديد الفترة الانتقالية إلى أربع سنوات مؤشر مقلق على أنها وسيلة لتمكين الجهاز الحاكم من ترسيخ نمط حكم سياسي، لا يكتفي بتعميم قيمه وتأويلاته العقائدية لقضايا الحكم والتشريع، وإنما يمنح التنظيم الأصولي الذي أحدث الانقلاب الكبير وأمسك بزمام السلطة وقتاً كافياً لإحكام القبضة على مؤسسات الدولة وأجهزتها.  فالمرحلة الانتقالية في طرق ممارستها الحالية، ليست مصممة لتعويد الناس على التعدد وإدلاء الرأي الحر والنقاش العمومي المفتوح والتنافس السياسي السلمي، بقدر ما هي انتقال من مركزية سياسية حادة إلى مركزية سياسية أخرى، تماثلها في آحادية الحكم وتفارقها في مسوغات السلطة وأسس شرعيتها.  أي تشترك في إقصاء الأفراد والمجتمع عن صناعة القرار، واعتماد مبدأ الولاء غير المشروط للجهة الحاكمة، وممارسة منطق الغلبة والقهر في حيازة السلطة.

تعود سوريا عضواً دولياً وإقليمياً معترفاً به، ويمارس قادتها الحاليون حنكة لافتة في تصفير المشاكل وتجنب الصراعات الإقليمية. فقد نجحت القيادة الحالية بزمن قياسي عودة العلاقات الطبيعة مع المحيط العربي، ومارست مرونة عالية في الانفتاح على أوروباً، وقدمت تنازلات مغرية للولايات المتحدة لغرض رفع العقوبات الاقتصادية، بل تعامل القادة السوريون مع ملف الحدود مع إسرائيل بهدوء وببراغماتية عالية لتجنيب سوريا حروباً تفوق طاقة تحملها. ما أسهم في فك العزلة الدولية ووفر فرص إنماء اقتصادي وعوامل استقرار سياسي بعيد المدى.

بيد أن مساعي العودة إلى المسرح الدولي، لم تترافق مع جهود كافية في الداخل لاستيعاب التناقضات التي خلفها النظام السابق، أو إدماج مكونات المجتمع المتعددة في الحياة العامة أو إشراكها في السلطة، أو توفير شروط أمان للطوائف والإثنيات المتعددة التي ما تزال تنظر بريبة إلى جهاز السلطة الحاكم. هذا فضلا عن  عجز السلطة في ضبط التنظيمات الأصولية وكبح رغبة القتل العبثي لديها، وفشلها في إعادة تأهيل الفصائل المسلحة لتكون عناصر متقيدة بالقانون وبمنطق الدولة. هي معطيات تشي بوجود فجوة هائلة بين خطاب السلطة العلني وواقعها الفعلي، وبأن الشرعية الدولية قابلة للتحول إلى مصدر حماية وحصانة للنظام القائم ضد انتهاكاته وجرائمه الداخلية مثلما حصل مع النظام السابق.  

نجحت القيادة الحالية بزمن قياسي عودة العلاقات الطبيعة مع المحيط العربي، ومارست مرونة عالية في الانفتاح على أوروباً، وقدمت تنازلات مغرية للولايات المتحدة لغرض رفع العقوبات الاقتصادية.

أسلمة الحياة العامة

 بتنا نجد مساع معلنة حينا ومضمرة حينا أخرى، لإسلمة الحياة العامة. هي أسلمة لا تكتف بترسيخ فهم خاص لمشروعية السلطة ونمط الحكم، وإنما تشمل أسلمة تدريجية وهادئة للمجتمع نفسه، من خلال تعميم قيم ومسلكيات وعلاقات ورؤى تتناسب مع أدبيات التنظيمات الجهادية وصياغاتها الأيديولوجية.  هي وضعيات تعمل على محاصرة المجتمع المدني الذي يقوم على الروابط الطوعية الخالية من الالتزامات العقائدية والإلزامات الايديولوجية، وتضيق الخناق على مساحات الحوار وحرية القناعات وحق التعبير المطلق والتفكير النقدي والنقاش الحر المفتوح حول خيارات سوريا المستقبلية.  ما يوحي بأن حظوظ تحقق قيم الديمقراطية وتداول السلطة السلمي وقيام الدولة على قواعد عقلية كلية، آخذة بالتضاؤل يوما بعد يوم، لتصبح هذه القيم مع الزمن تطلعات طوباوية وأضغاث أحلام وآمال مستحيلة تتناقلها الأجيال بصمت حزين.

لم تحسم سوريا، بأجهزتها الرسمية ونخبها الحاكمة والتدولات العمومية، خياراتها ووجهتها. بل ما تزال أمام مفترق طرق: إما تكرار دائري لا يتوقف للتاريخ ، بإعادة إنتاج بنية السلطة السابقة ومنطقها وأسس مشروعيتها، رغم اختلاف الأشخاص والنخب وتأويلات الحق والباطل، وهو ما يحصل الآن. وإما إحداث تغيير سريع وعنيف للقيم السائدة والتنظيم السياسي والبناء الاجتماعي وقواعد اللعبة ومعايير القبول والرضا وموجبات الولاء والطاعة.

بتنا نجد مساع معلنة حينا ومضمرة حينا أخرى، لإسلمة الحياة العامة. هي أسلمة لا تكتف بترسيخ فهم خاص لمشروعية السلطة ونمط الحكم، وإنما تشمل أسلمة تدريجية وهادئة للمجتمع نفسه.

هذا لا يتحقق بتديين المجتمع وأسلمة مظاهر السلطة وقيمها، كون ذلك يعمق الفجوة بين الدولة والمجتمع ويسوغ مصادرة الحريات ويشرعن جميع وجوه الاستبداد، وإنما يتحقق بخلق مجال سياسي يظهر أفراد المجتمع ومكوناته التضامنية كائنات سياسية تشارك في صناعة القرار السياسي، وبالتأسيس للحرية بصفتها قيمة مركزية لأي انتظام عام غير قابلة للانتزاع أو المساومة، مقابل مفهوم العدل الذي يشكل من دون مسلمة الحرية غطاء ماكراً للاستبداد. مع التأكيد الصارم على أن الدولة من دون حرية عبودية، وأن الحرية خارج الدولة بداوة. 

اقرا ايضا:  صراع تركي اسرائيلي: «من يكسب سوريا سيتحكم بتوجهات المنطقة على مدى 100 عام»!!

السابق
وزير العدل: وفيق صفا ممنوع من دخول العدلية كما فعل سابقاً!
التالي
شكوك جدية حول سلامة العملية الانتخابية ونزاهتها.. «لادي» تطالب بإعادة الإنتخابات في طرابلس!