كيف تريد من اتباعك ان يتبعوك يا يسوع؟

أتباع يسوع هم من يُعرفون بـ”المسيحيين”. يولدون من اهلٍ مسيحيين، لكنهم لا يصبحون مسيحيين بالفعل الا بعد أن يتبعوا يسوع. ولكي يتبعوه عليهم ان يمشوا بحسب تعاليمه وافعاله. من هنا يبدأ صراعهم الداخلي، فلقد صعبّ يسوع عليهم المهمة، لحد الاستحالة.

أراد شاب ان يتبعه، وأكد له انه حفظ الوصايا، وسأله “ماذا يعوزني بعد؟” فقال له يسوع: ” إن أردت أن تكون كاملأً فاذهب وبع أموالك واعطِ الفقراء، فيكون لك كنز في السماء، وتعال واتبعني”. “ولما سمع الشاب الكلمة مضى حزيناً لأنه كان ذو أموال كثيرة”.

” ولما رآه يسوع قد حزن، قال: ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله، لأن دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله”.

ها هو يسوع يقطع الطريق على الأغنياء بدون اي لبس، وإذا فكّر الأغنياء بتسوية ما معه، عن طريق التبرع مثلاً بجزء من أموالهم الى الفقراء، كان لهم بالمرصاد. فإذا لم يكن تبرعهم على مثال “فلس الارملة” اي ان يعطوا ما يحتاجون اليه كما فعلت الارملة، فلا معنى لعطائهم.

صرامة ما بعدها صرامة. ” لا يقدر خادم ان يخدم سيدين، لأنه اما يبغض الواحد ويحب الآخر، او يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون ان تخدموا الله والمال”. انها القطيعة الكاملة مع المال في أقوال واعمال يسوع، ” لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضاً”.

“ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله، لأن دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله”

زعماؤنا ويسوع

كيف تريد من الزعماء والنواب والوزراء المسيحيين في لبنان ان يتبعوك يا يسوع، وبإكثريتهم الساحقة اثرياء؟ كيف تريد من الكنائس المسيحية الثرية ان تقنع اتباعك بأنها المثال الصالح؟ كيف تريد من اتباعك الذين يلتحقون بالزعامات ويلتفّون حول كنائسهم، ان يتبعوك يا يسوع؟ كيف يمكن لمن تعوّد تقبيل أيادي رجال الدين ان يتبع من غسل وقبّل أقدام تلاميذه!

رغم جذرية مواقف يسوع، خدمت البروتستانتية النظام الرأسمالي من خلال تقديس النمو والانتاج الرأسمالي، واعطته دفعاً روحياً. ويأتيك ترامب المدعوم من البروتستاتية المحافظة، وبعد ان أقسم اليمين على الانجيل في يوم تنصيبه رئيساً، ليجعل من المال القيمة العليا التي ترسم سياساته الداخلية والخارجية، على حساب الفقراء ومصلحة الشعوب وحريتها، وحده البابا فرنسيس، وعلى عكس الكثير من الاحزاب المسيحية الكاثوليكية، لا يزال يذكّر بصوت عالٍ ” ان الكنيسة اما تكون كنيسة الفقراء او لا تكون كنيسة يسوع”.

لم يطلب يسوع من الذين قرروا ان يتبعوه ان يتركوا أموالهم فقط. قال: ” اترك كل شيء واتبعني”. نعم كل شيء : “الحق أقول لكم: إن ليس أحد ترك بيتا أو والدَين أو إخوة أو امرأة أو أولادا من أجل ملكوت الله إلا ويأخذ في هذا الزمان أضعافا كثيرة، وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية.”

عندما كان يقول يسوع لأحدهم “اترك كل شيء” كان يضيف “واحمل صليبك واتبعني”. اي ان تتبعه الى حيث المواجهة مع السلطات الدينية والزمنية، كما حصل معه في اورشليم

وكيف يأكل ويشرب ويلبس من يتبعه بعد ان يكون قد ترك كل شيء؟ جواب يسوع بسيط وصادم: “لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟”. كان يسوع في الواقع يتنقل مع تلاميذه من منزل الى آخر، وخاصة عند الفقراء والمنبوذين، ويتناول الطعام معهم وبضيافتهم، ويمضي الليل حيث يأكل اذا اقتضى الامر ذلك. وقبل أن يُصلب، كان يخلد الى النوم في “بيت عنيا” قرب اورشليم، في ضيافة الأختين مرتا ومريم. 

احمل صليبك واتبعني

كان يفعل كل ذلك في بيئات متدينة ومحافظة، تخضع للفروقات الطبقية والتراتبية الاجتماعية. فكم هم قليلون الذين يتجرأون في بيئتنا نحن، وبعد الفي سنة، ان يسلكوا الطريق الذي شقه لأتباعه!

لكن جرأته لا تقف عند هذا الحد. فعندما كان يقول لأحدهم “اترك كل شيء” كان يضيف “واحمل صليبك واتبعني”. اي ان تتبعه الى حيث المواجهة مع السلطات الدينية والزمنية، كما حصل معه في اورشليم، ولا تنسى ان تحمل معك صليبك، فمصير المواجهة هو الصلب لا محالة، نظراً لموازين القوى لصالح السلطات.

لكن اتباعه اعتبروا انه جاء ليُصلب وليموت من أجل خلاصهم، وكل ذلك كان مكتوباً، ولا علاقة للصلب بالمواجهة، والصليب الذي يحملوه هو رمز عذاباتهم هم، التي عليهم تحمّلها إكراماً لآلام يسوع. وبالتالي ليس عليهم المواجهة بل تقبل الواقع ببؤسه وشقائه، بإنتظار مجيئه الثاني.

لا أعرف من عليّ ان ألوم، وانا أعاين هذا التباعد الكبير بين يسوع واتباعه. هل ألوم مثالية يسوع القاسية بمتطلباتها وشروطها، ام واقعية اتباعه المفرطة بقدرتها على التأقلم، ام ان الزمن قد تغيّر، بعد الانتصار الساحق للقيم الرأسمالية في العالم، وبعد أن تطبّعت المسيحية الأولى مع قيم الامبراطورية الرومانية، القائمة على العظمة والعنف والثراء الفاحش، طاويةً بذلك صفحة الأربعة قرون المجيدة من التبشير السلمي بقيم المحبة والبساطة والمساواة والسلام.

اقرا ايضا: حكايات لبنانية…

السابق
نقل البطريرك الراعي إلى المستشفى بعد قداس عيد الفصح.. ماذا حصل؟
التالي
بالصور: مظاهرات ضد ترامب في عدة مدن أميركية رفضا للأعمال غيرالقانونية!