المدينة بين ثراء الغرباء والذعر من التوطين

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

المدينة ليست فقط شوارع مرصوفة، ومبانٍ شاهقة، وساحات تعج بالحركة، بل هي كيان حي، تنبض بالحكايات والتجارب والوجوه التي تمر بها. وهي، قبل كل شيء، مَلفى الغرباء. هؤلاء الذين حملتهم الرياح من مواطن بعيدة، فألقوا بأنفسهم في أحضانها، حاملين في قلوبهم بقايا من وطنٍ غاب، وفي عقولهم بذور أفكار وتجارب جديدة.

الغريب، حين يدخل المدينة، لا يكتفي بأن يسكنها؛ بل يسهم في إعادة تشكيلها. يأتي بلغته، بعاداته، بقلقه، وبأسئلته المختلفة. وهو، بطبعه، منفتح على الجديد، ساعٍ إلى فهم الآخر، لأن حياته باتت رحلة مستمرة نحو الاندماج والتفاعل.

 من هنا، يتحول الغريب إلى حاملٍ لطاقة متجددة، يثري بها النسيج الحضري، ويضخ في أوصال المدينة حيوية معرفية وثقافية وإبداعية لا تأتي إلا من ذوي التجربة والمغايرة.

من وضع اسس النظام اللبناني كان ميشال شيحا وهو من اصل اشوري عراقي، لعب دورا مزدوجا في اطلاق صيغة لبنان السياسية، وفي تأسيس وارساء النظام المصرفي اللبناني

كم من غريب أتى إلى مدينة لا يعرف فيها أحدًا، فأصبح لاحقًا واحدا من مناراتها الثقافية، أو روّاد علمها، أو صانعي فنّها وموسيقاها! وكم من مدينة نهضت، لا على أكتاف أبنائها فحسب، بل على أيادي أولئك الذين نزحوا إليها حاملين ما لم يكن فيها!

إقرأ أيضا: عليّ وعلى أعدائي يا رب

المدينة، إذًا، لا تكتمل إلا بالغرباء. فهم الذين يجعلونها مرآةً للعالم، ومساحةً للعبور بين الهويات، ومسرحًا دائم التغير. إنهم يفتحون نوافذها على البعيد، ويمنحونها منفىً رحيمًا، ووطنًا بديلًا، وفي بعض الأحيان… وطنًا أفضل. كل عمران انساني يرفض الغريب ويحاصره سيتحول الى  ريف تحكمه افكار بدائية. كل مدن تتصدرها دعوات كهذه ستتحول الى ضياع وقرى يحكمها منطق الارياف وغرائز الكراهية والتمييز والعصبيات القبلية.

كان العديد من أصحاب المصارف اللبنانية من أصول فلسطينية أو سورية أو أرمنية، وهاجروا إلى لبنان بعد نكبات سياسية (النكبة الفلسطينية، أو المجازر الأرمنية) واستثمروا في قطاع المال

ولم تكن تجربة لبنان مع غربائه مختلفة او خروجا عن هذه القاعدة، فمن وضع اسس النظام اللبناني كان ميشال شيحا وهو من اصل اشوري عراقي، لعب دورا مزدوجا في اطلاق صيغة لبنان السياسية، وفي تأسيس وارساء النظام المصرفي اللبناني.

كما كان العديد من أصحاب المصارف اللبنانية من أصول فلسطينية أو سورية أو أرمنية، وهاجروا إلى لبنان بعد نكبات سياسية (النكبة الفلسطينية، أو المجازر الأرمنية) واستثمروا في قطاع المال. وقد حصل عدد لا بأس به، من مؤسسي المصارف اللبنانية، على الجنسية اللبنانية لاحقاً لأسباب اقتصادية أو سياسية…

اقدم المصارف اللبنانية هو فرنسابنك الذي تأسس سنة ١٩٢١ وكان فرعا  لبنك فرنسي، ثم انتقلت ملكيته الى عائلة كرجه وتولى ادارته عدنان ورضى كرجه، واصول هذه العائلة فلسطينية من مدينة القدس وقد انتقلت الى لبنان بعد نكبة ١٩٤٨

لكن ابرز المؤسسات المصرفية كاتت بنك انترا (Intra Bank) الذي اسسه سنة ١٩٥١ يوسف بيدس وهو فلسطيني من مدينة حيفا، وقد حصل على الجنسية اللبنانية لاحقاً، وأصبحت شركة انترا في ستينات القرن الماضي، من أكبر المصارف في لبنان والعالم العربي، وتفرع عنها شركة طيران الشرق الاوسط، وكازينو لبنان واستوديو بعلبك للتصوير والسينما، وكان انهيارها سنة 1966 زلزالاً اقتصادياً في لبنان.

ابرز المؤسسات المصرفية كاتت بنك انترا (Intra Bank) الذي اسسه سنة ١٩٥١ يوسف بيدس وهو فلسطيني من مدينة حيفا

كما أسس رفعت النمر وعائلته الفليسطينية الأصل ثلاثة بنوك هم ؛  البنك الاتحادي العربي ،وبنك بيروت للتجارة وفيرست بنك إنترناشونال FNB، اما بنك عوده فقد اسسه سنة ١٩٦٢ ريمون عودة وهو فلسطيني الاصل من مدينة نابلس،  اما عائلة سارادار او سردار والذي اسس بنك سارادار السيد ماريوس سرادار عام 1948، ومن بعده ابنه جو سرادار، ثم حفيده ماريو جو سرادار. فكلمة “سرادار” أو “سردار” هو لقب استخدم تاريخيًا في عدة لغات وثقافات، وتعني “القائد” أو “الزعيم العسكري”.

استخدمت الكلمة أيضًا في المناصب الإدارية، مثل “أمين الخزينة” أو “الخازن”. الاسم موجود كذلك في بعض المجتمعات الأرمنية والكردية والبلقانية بتلفظات متقاربة.

هذا يجعل الأصل اللغوي للاسم أقرب إلى الإيراني أو العثماني أو الأرمني، وليس لبنانياً صرفاً،فلم تكن عائلة “سرادار” معروفة في السجلات التاريخية كعائلة لبنانية تقليدية من الجبل أو المدن الساحلية (مثل بيروت، صيدا، طرابلس). على الأرجح، هاجرت العائلة إلى لبنان في أواخر القرن التاسع عشر أو أوائل القرن العشرين. والافتراض الأقوى: إن عائلة سرادار قد تكون من أصول:أرمنية أو فارسية (إيرانية)، أوتركية عثمانية مهاجرة إلى لبنان، وربما اعتنقت المسيحية واستقرت في بيروت لاحقًا.

الصحناوي عائلة من  أصول سورية، من مناطق مثل صحنا وصيدنايا ودمشق وحلب، وقد استقروا في لبنان في العهد الفرنسي

كما اسس رجال اعمال سوريين المصارف اللبنانية التالية: نعمان  وسعد الازهري  المشرق/ ثم بنك لبنان والمهجر  الذي تاسس سنة ١٩٥١ Blom, يضاف الى هؤلاء ،آل العبجي الذين لديهم اليوم بنك Bemo وقبلا الاعتماد اللبناني والذي تقلبت اسهمه بين مستثمر بحراني هو عمار السعودي وآخر مصري هو نجيب سويروس اضافة الى جوزيف طربيه/ اما عائلة الصحناوي فتملك الشركة العامة Sgbl.

و الصحناوي عائلة من  أصول سورية، من مناطق مثل صحنا وصيدنايا ودمشق وحلب، وقد استقروا في لبنان في العهد الفرنسي، وتمتلك عائلة صحناوي ٥٠ % من اسهم البنك، بينما يمتلك مساهمون بلجيكيون وفرنسيون الحصص الباقية.

الغرباء الوافدين الى لبنان لم يكونوا فقط اصحاب بنوك بل قاموا بتأسيس اكبر الشركات الهندسية من دار الهندسة، وعمادها الشاعر ومشاركوه، الى شركة CCC لصباغ وخوري الى شركة خطيب وعلمي، وعدا الخطيب فكلها شركات هندسية عملاقة ل مهندسين من اصول فلسطينية… اللائحة تطول اذا اردنا ان نروي قصة تطوير مرفأ بيروت، او المساهمة في توسيع وتنشيط الجامعة الاميركية في بيروت وغيرها من وكالات سيارات جاكوار ومرسيدس وشركة ألبير ايبلا للمأكولات والمعامل المختلفة.

تبرز هذه الجردة المختصرة كيف تم توطين النخب المالية العربية، في لبنان وإعطائهم امتيازات ليس اقلها تسليمهم مقدرات الثروة الوطنية، وكان قد تم قبل ذلك  توطين  الجالية الأرمنية التي نزحت عن الاراضي العثمانية

التاريخ الحقيقي يشهد ان الغرباء مع الشرائح والجماعات المدنية من كاثوليك وارثوذكس واهل السنة ، هم من اعطوا المدن الق تعددها، ورونق انفتاحها، وصروح حداثتها، اما طوائف الريف من موارنة وشيعة فلم ينخرطوا في النشاط الراسمالي والمصرفي الا في وقت لاحق، حيث تأسّست دفعة من البنوك اللبنانية لاحقا، في فترات متقاربة نسبيًا، فقد، شهد لبنان ولادة مجموعة من البنوك المهمة، في عام 1962، تأسس البنك اللبناني السويسري (Banque Libano-Suisse)، وبرز فيه لاحقًا اسم عائلة أبي نصر. وكان عام 1963 حافلًا بتأسيس عدد من البنوك، من بينها بنك بيبلوس (Byblos Bank)، الذي أسسه فرناندو الشويري، وتوسّع فيما بعد تحت قيادة عائلة باسيل، لا سيما فرانسوا باسيل. وفي العام نفسه، تأسس بنك بيروت (Bank of Beirut) على يد مجموعة من رجال الأعمال اللبنانيين، وكان من أبرز الأسماء المرتبطة به لاحقًا عائلة صفير، خاصة سليم صفير.

إقرأ أيضا: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: بين خطب الكراهية ونهضة الوطن

كذلك في عام 1963، تأسس ما كان يُعرف لاحقًا باسم بنك لبنان والخليج (LGB Bank)، وتحوّل من مصرف صغير إلى بنك، بعد انتقال ملكيته إلى بسام الهاشم. اما أحدث هذه البنوك من حيث التأسيس فهو البنك اللبناني الفرنسي (Banque Libano-Française)، الذي أُسس عام 1967 بشراكة مع كريدي ليونيه الفرنسي، قبل أن تنتقل إدارته إلى عائلة صفير، وعلى رأسها وليد صفير. اما بنوك الشيعة كبنك الجمال وبنك مبكو لعائلة الجلبي العراقية فقد تمت تصفيتهما في ازمنة مختلفة…

تبرز هذه الجردة المختصرة كيف تم توطين النخب المالية العربية، في لبنان وإعطائهم امتيازات ليس اقلها تسليمهم مقدرات الثروة الوطنية، وكان قد تم قبل ذلك  توطين  الجالية الأرمنية التي نزحت عن الاراضي العثمانية…

التوطين منذ الاستقلال وقبله كان فعلا ممتدا ومستمرا لعهود “المارونية السياسية” ورعايتها، وقد لعب الرئيس كميل شمعون دورا فاعلا في تجنيس الالاف من الفلسطينيين والعرب وفتح المجال لاستثماراتهم ومؤسساتهم.

والسؤال المنطقي بعد ادراك حقائق التاريخ هو :

 كيف يصبح شعار منع التوطين مهمة شعبية وطائفية، تستحق حربا لمنعها، طبقا لسردية الاحزاب التي انضوت في الجبهة اللبنانية خلال الحرب الاهلية!؟ وكيف رفعت الجهة التي قامت بكل عمليات التوطين والتجنيس على مدى عقود كاملة برفع شعار : لن يبقى غريب على ارض لبنان، وشعارا آخر موجه لطرف لبناني آخر: لبنان ل اللبنانيين أحبه او غادره!

لم تكن معزوفة الوطن البديل الا رغبة اسرائيلية صافية صاغها اولا في خمسينات القرن الماضي، اليمين الاسرائيلي وخاصة غولدامائير ثم اسحق شامير وبعدها ارييل شارون. وقصة الوطن البديل هذه لم تأت على ذكر لبنان بتاتا، بل كان دائما في الاردن تارة وفي نسخة معدلة المملكة المتحدة التي يمكن ان تضم الاردن مع اجزاء من الضفة الغربية.

التوطين في لبنان لم يكن يوما مشروعا فلسطينيا، بل لم يكن عرضا تآمريا اميركيا تم عرضه على الفلسطينيين من اجل وطن بديل في لبنان، كان فقط “راجحا سياسيا وهميا” برر التحالف بين الجبهة اللبنانية ونظام الاسد ودغدغ مشاعر جهات شيعية ليتكون حلفا عابرا لبيئات متعددة

في سبعينات القرن الماضي، اخترع آل الاسد فكرة التوطين كخطر على لبنان واطلقها سليمان فرنجية كجسر تحالف بين نظام الاسد والجبهة اللبنانية واوساط شيعية تتبع سورية.

لم تكن معزوفة الوطن البديل الا رغبة اسرائيلية صافية صاغها اولا في خمسينات القرن الماضي، اليمين الاسرائيلي وخاصة غولدامائير ثم اسحق شامير وبعدها ارييل شارون

التوطين في لبنان لم يكن يوما مشروعا فلسطينيا، بل لم يكن عرضا تآمريا اميركيا تم عرضه على الفلسطينيين من اجل وطن بديل في لبنان، كان فقط “راجحا سياسيا وهميا” برر التحالف بين الجبهة اللبنانية ونظام الاسد ودغدغ مشاعر جهات شيعية ليتكون حلفا عابرا لبيئات متعددة، في مواجهة منظمة التحرير الفلسطينية واليسار اللبناني، هذا لا يعني عدم وجود تجاوزات وخطايا فلسطينية كثيرة ونهج سياسي يساري حمل لبنان وشعبه وخاصة مناطق الجنوب وبيروت والبقاع الغربي اثمان باهظة، لكن معزوفة الوطن البديل والتوطين كذبة مازالت حية.

إقرأ أيضا: أميركا تحاول ابتزاز إيران.. الصحف الإيرانية: 5 قراءات في الرسالة السعودية لخامنئي!

بؤس العقل المؤامراتي لدى  بعض من قاد الحرب في لبنان، ان يحاول اقناعنا لتبرير نفسه بالقول : الوطن البديل في لبنان هو هدف اسرائيلي، لكننا نستعين باسرائيل لكي نفشل مؤامرة الوطن البديل.  الاحداث الجارية تؤكد زيف هذه السردية التي يتبناها دون تدقيق بعض احزاب اليمين، فياسر عرفات لم يكن يريد وطنا بديلا، بل مسرح عمليات ينطلق منه، وقد كلف لبنان ذلك خسائر هائلة، والشعب الفلسطيني لم يقبل ولن يقبل ان يبادل فلسطين بكل اوطان الدنيا المعروضة عليه من كندا الى الدانمارك الى اوستراليا، وهي بلدان قتل اللبنانيون انفسهم سعيا لكي يهاجروا من لبنان اليها، وتنقل وسائل الإعلام كيف يموت تحت القصف في غزة شعب فلسطين ولا يغادرها، والعالم شاهد عرفات محاصرا في المقاطعة في رام الله ليموت في ارضه، كذبوا كذبة وصدقوها وصارت أغنية يرددونها، وكل خبريات التوطين فبركها حافظ الاسد ليستعمل حقد البعض وتعصبهم ضد الفلسطينيين في حربه للسيطرة على لبنان وفلسطين. هل نعتبر!؟

السابق
أميركا تحاول ابتزاز إيران.. الصحف الإيرانية: 5 قراءات في الرسالة السعودية لخامنئي!
التالي
الراحل أحمد محفوظ.. ذكريات لن تنهي