
لا تنتهي الحرب الأهلية في لبنان بمجرد توقف آلة الدمار وممارسات القتل والتهجير، وإبرام ميثاق سياسي جديد.
فآثارها عميقة وضاربة في صميم تكوين المجتمع ووجدان الناس ونمط الحياة العامة، الأمر الذي يكفل بقاء هذه الحرب وحتى عودتها بأشكال مختلفة، بل يضمن استمرارية حضورها المدمر في السر من دون قيود أو رقابة.
هذه الحرب، هي جزء مهم من ذاكرة لبنان الحديث، والتعامل مع هذه الذاكرة لا يكون بمحوها أو نسيانها أو تجاهلها ، إذ نكون كمن يحجب بإصبعه ضوء الشمس عن نفسه، بل بفهمها والوقوف على أسبابها الظاهرة والخفية، القريبة والبعيدة. ذلك يكون بعودة شفافة إلى الذات تفرض شجاعة الاعتراف وجرأة الوقوف أمام المرآة، لا الإصرار على سرديات تبرئة الذات وشيطنة الآخر. وعبر مراجعات عميقة وجدية للواقع اللبناني، تشمل مبادئه التأسيسية وبنيته السياسية ونظمه الثقافية ومسلماته القيمية، لا القفز فوق تناقضات ومآزق هذا الواقع.
الحرب هي هذا النحن، النحن بالمقلوب، النحن الباطني، الذي لا يمكن ان نفر منه أو نخفيه، والنظرة إلى الحرب بتجرد هي تعرف إلى الذات أو اكتشاف المخفي منها، هي وقوف شفاف أمام مرآة صافية. بالتالي لا يمكن الهروب منها أو تجاهلها أو التظاهر بأنها أصبحت ورائنا.
لذلك، ورغم أهمية العوامل الخارجية، التي تكاد تكون الأسباب المباشرة للحرب، لكنها كانت تحصل على أرض لبنانية ومن خلال اللبنانيين أنفسهم.هناك لبناني وقف قبال لبناني آخر ليقتله، لم يقتله لأجل القتل، أو لأنه يكرهه ويحقد عليه، بل لأن الأمور خرجت عن السيطرة، ولم يعد للعقل والقيم الجامعة وأجهزة الدولة، قوة ردعية لحصول الانفجار الكبير. بالتالي لا يعود العامل الخارجي وسيلة للبحث عن براءة ذاتية، بل مقياس ومعيار لدرجة هشاشة الواقع اللبناني، أو درجة تماسكه وصلابته، ومدى قدرته على استيعاب هذه المؤثرات وامتصاصها.
المعيار هو النظر في التكوين الداخلي، في البنية القابعه وراء المتغيرات، ووراء المشهد المتعاقب، والثابت الذي لا يعترف بالزمن، ويقف وراء تبدلات الصورة ومتغيراتها، ويعود بأشكال وصور مختلفة. ما يجعل الحرب مؤشر قياس لمدى قابلية التكوين السياسي الداخلي على التفكك والانقلاب على نفسه.
بالتالي يكون السؤال هنا، ليس في أسباب الحرب فقط، بل في شروط إمكان الحرب. فسؤال الأسباب تاريخي، ظرفي وآني، يتقصى الافعال المباشرة التي فجرت الحرب. أما سؤال شروط الإمكان فهو ذاتي، بنيوي، متحرر من الزمن، وقابل أن ينتج حروبا بأشكال متعددة، وحتى بأسباب مختلفة.
كان اتفاق الطائف هو المحطة الجديدة، التي يفترض أن تكون نقطة تحول جوهرية، منعطف أو منعرج، لا لإنهاء الحرب فحسب، بل إبطال آثارها ومفاعيلها. فالخروج من الحرب لا يقتصر على سكون البنادق والمدافع، بل يعمد إلى إزالة أثارها العميقة، والتأسيس لشروط حياة جديدة.
نستدعي اتفاق الطائف، لا لبحث بنود الدستور، لكن في محاولة للتعرف إلى العقلية التي أنتجت الطائف، وشخصت المشكلة، وظنت أنها وضعت يدها على الجرح. هما مشكلتان جوهريتان: مشكلة عدالة التوزيع، التي تسببت بغبن بعض مكونات المجتمع لصالح مكونات أخرى، ومشكلة الهوية بتأكيد العمق العربي.
لم يكن هنالك مشكلة في حسم العنوان الثاني، أي عروبة لبنان، بأن أكد العمق العربي للبنان مع احتفاطه بخصوصيته الذاتية. أما مششكة عدالة التوزيع، فقد قرر المؤتمرون أن ذلك يتحقق بإنصاف الطوائف، وترسيخ المناصفة الإسلامية المسيحية في جميع مراكز السلطة وتوزيع الموارد. ظناً منهم أن ذلك سيرفع الغبن والتهميش عن اللبنانيين، ويضمن استقراراً طويل الأمد.
هذا حول الطوائف رسميا من مكونات اجتماعيه وثقافيه الى مكونات سياسية، وباتت جزءً أساسياً من لعبة الحياه السياسيه، لتكون الطوائف واسطة العبور الحصري من الفرد إلى الدولة، والعكس صحيح.
لم يلتفت المؤتمرون إلى أن أصل مشكلة الحرب الأهلية كان يكمن في هشاشة الدولة وعجزها، أي عدم استيفاءها الوظائف الأساسية لها، والتي أهمها تخصص الوكلاء، أي أن تمارس السلطة من داخلها، وهي الوحيدة المخولة ممارسة السلطة واتهاذ القرار، وحصرية الإكراه المشروع الذي يستلزم السيادة الكاملة، والبنية المؤسساتية، أي المؤسسة غير المشخصنة ويقوم نشاطها على قاعدة عقلية كلية.
رغم أن الدستور، يحتوي مواداً قيِّمة حول الديمقراطية وحرية الرأي والليبرالية وحقوق الفرد، وسيادة الدولة، لكنه أيضاً زرع بداخله ما ينفي هذه المباديء ويقوضها. أي يعطيك بيد ويأخذه منك بيد أخرى. زرع مباديء ونصوص لكنه لم يرسم لوحة دستورية متماسكة ومتناغمة تعبر عن روح واحدة ومقصد جلي.
وقف قبال لبناني آخر ليقتله، لم يقتله لأجل القتل، أو لأنه يكرهه ويحقد عليه، بل لأن الأمور خرجت عن السيطرة، ولم يعد للعقل والقيم الجامعة وأجهزة الدولة، قوة ردعية لحصول الانفجار الكبير
اعترف الدستور بحرية الفرد، لكنه وضعه داخل قفص طائفته، كمحدد قانوني وسياسي له (في شؤونه الشخصية وتمثيله السياسي). اعترف بالخصوصيات الدينية والثقافية مظهراً لغنى الحياة وأرضية للتنوع، لكنه حولها إلى كائنات سياسية مغلقة، تتبادل المكونات الأخرى الشكوك وعدم الثقة، وفي حال صراع دائم على السلطة. تم في الدستور فصل السلطات، كسبيل لمنع الاستبداد والتفرد بالسلطة، وهو المقترح الذي قدمه مونتسكيو وفق مبدأ أن السلطة تحد نفسها وتراقب نفسها، مع احتفاظها بوحدتها. لكن الدستور بدل فصل السلطات بداخلها، تم تجزئتها وتفتيتها، أي أفقدها وحدتها، وباتت أشبه بلعبة صراع بين مراكز قوى متنافرة ومتباعدة. تم في الدستور تأكيد سيادة الشعب، فبتنا أمام سيادة طوائف، أي سيادات مستقلة ومنفصلة عن بعضها، تكاد في مسار تضخمها تعلو سيادة الدولة نفسها. تم في الدستور تأكيد سيادة الدولة، التي تعني حصرية السلاح، وقرار الحرب والسلم، وإذا بها فاقدة لقرارها المستقل. لمناطة بها.
هذا تسبب، بغياب روحية متناغمة جميع بنود الدستور، وبالتالي حصول تعارض وتناقض في تفسير وتاويل الدستور. فحين كان من المفترض أن يكون الدستور مرجعيه لفض النزاع والخلاف بات هو المشكلة نفسها، ومحل اختلاف واسع بين القوى المتصارعة.
نتيجة لذلك، نشأ عرف دستوري رديف، هذا العرف لا يعبر عن اجتهادات دستوريه وانما عن ترجمه لموازين الامر الواقع. لمسنا ذلك في انتخابات رئاسه الجمهورية، في مفهوم السياده وحصريه السلاح بيد الدولة، وفي حصرية قراري الحرب والسلم، وفي تفسير ميثاقية العيش المشترك تفسيرا طائفيا ومذهبياً، مع تغييب كامل لحقيقتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
إذا كان السبب العميق للحرب هو هشاشة الدولة، وافتقادها لأهم خصائصها الجوهرية، فإن واقعنا الحالي يبدو أكثر سوء، بعد تضخم الهامش الذي يزاحم الدولة في مهامها، من أمن ذاتي، وهوية منضخمة وهويات متباعدة. لذلك انتهت حرب تاريخية، لكن شروط إمكانها لم تنته.
اقرا ايضا: هكذا باعت إيران الحزب.. علي الأمين: السلاح كوسيلة للجم العدوانية الإسرائيلية أثبت فشله