
وقولنا الاستهلاليّ أعلاه: إن رواية “جنازة واحدة لموت كثير” عائد – وكما تُصوّره هذه الرواية – إلى خوفها المصيري الفردي، على نفسها – وحسب وضعها الاجتماعي بمختلف وجوهه الحياتية – بصورة خاصة، هذا الخوف الذي كان متلازماً، وبالضرورة مع خوفها المصيري الشامل، على مجتمعها وبيئتها، بصورة عامة. إذ هو الخوف الكبير، الذي سيطرت أجواؤه المرعبة، على شخصيات العالم الروائي، لهذه الرواية، في أماكن عيشها ووجودها. وهي الأجواء التي ولّدتها الحرب الأهلية اليمنية، التي، تُعرِّفها الرواية بـ”حرب الانفصاليين (العدنيين)، حرب صيف (1994) التي اندلعت بين شطري اليمن الشمالي والجنوبي (العاصمة صنعاء ومدينة عدن)، عقب إعلان الوَحدة بينهما، وهي الوَحدة التي انهارت بعد استيلاء الإماميين على السلطة في العاصمة. (ص31). لكن البؤرة المكانية، الأساسية، لهذا العالم الروائي، هي حارة من حارات صنعاء، تسكنها راوية الرواية التي هي (راوية الرواية وبطلتها وشخصيتها المحورية)، وهي، في الرواية من دون إسم)، وهي فتاة لأسرة عدنية انتقلت من عدن وسكنت هذه الحارة، وهذه العائلة مكوّنة من الأب والأم وشابين وصبية واحدة.
اقتحام صنعاء
والراوية، فتاة ومن ثم امرأة متزوجة عاقِر ومن ثم أرملة: “حارتنا هذه لم أحبّها يوم انتقلنا إليها في أوائل الثمانينيات… و”من بيتنا الصغير هذا كنت أتطلَّع دائماً للقادمين، (إليه)، فهم يكسرون رتابة حياتنا المملة”. (ص38)، “فقد سكنّا من قبل في وسط المدينة، حيث الحركة والأسواق المنتعشةُ والمحلاّت المضاءة” (ص40). غير أن “رتابة الحياة المملة”، لهذه العائلة في هذه الحارة، انقلبت رأساً على عقب، ذات ليلة التهبت فيها صنعاء بكاملها، وعلى ما تُعلن الراوية في الصفحة (22): “فلقد كانت صنعاء ملتهبة، حين سمعنا دويّ المدافع، وانهمر صوت الرصاص والقذائف، ولم نتوقع أن الإمامة ستعود وتسيطر دون مقاومة على كل شيء. وفي إحدى ليالي سبتمبر من عام 2014، انقطع التيار الكهربائي، واستمر الانقطاع ساعات الليل كله، كانت هواتفنا فقط لا تزال تعمل في تلك اللحظات بشحنٍ ضعيف، حاولنا إبقاءها أطول وقت ممكن…

وتوالت الأخبار على مجموعات “واتساب”… ثم وصلتنا تسجيلات تداولتها وسائل التواصل، بصوت مذيع معروف، تنقُل خبر اقتحام الحوثيين للقناة (التلفزيونية التابعة لجناح حزب الإصلاح الذي أصبح حاكماً بعد ثورة (211)) والاستيلاء عليها، و”الاستيلاء على المعسكرات ومقرات القيادة العسكرية للجيش دون مقاومة”. (الصفحتان 22 – 23). و”استمر الانقطاع الكهربائي، وفرغت التلفونات من الشحن، وكانت بداية الظلام الذي سيغشى سماء صنعاء لسنوات قادمة، وبداية عدها التنازلي لتلفظ كل ماله صلة بالحياة، وخروج الآلاف من أبنائها لشتات تاريخي طويل، في انهيار آخر يوازي انهيار سدّ مأرب العظيم” (ص24).
لكن رواية “جنازة واحدة لموت كثير”، هي رواية لا تحكي حكاية الحرب الأهلية اليمنية، بل تُظهر أثر واقعها المرجعي الحيّ (الواقع المعيش/ المكان الفضاء) في بناية عالمها الروائي. إذ هي حكاية بطلتها/راويتها كحكاية كبرى، انضوت ضمنها حكايات عن نساء حارتها (جاراتها)، ومن خارج حارتها، تسرد حكاياتهن في روايتها هذه، من خلال معرفتها الشخصية القوية بهن، معرفة أنشأت بينها وبينهن علاقات مجتمعية وطيدة.
هي حكاية بطلتها/راويتها كحكاية كبرى، انضوت ضمنها حكايات عن نساء حارتها (جاراتها)، ومن خارج حارتها، تسرد حكاياتهن في روايتها هذه، من خلال معرفتها الشخصية القوية بهن، معرفة أنشأت بينها وبينهن علاقات مجتمعية وطيدة
يبدأ الزمن الروائي (الواقعي)/ زمن الحاضر الروائي)، في “جنازة واحدة لموت كثير” في ليلة من ليالي العام 2015 وينتهي في فجر تلك الليلة فحسب، لكن هذا الزمن الذي تفتحه الرواية، استرجاعياً (فلاش باك/ العودة بالزمن إلى الوراء)، من خلال انفتاح ذاكرة الراوية على ماضٍ لها، اتسع مجالُهُ التذكرّي على مدى خمسة وعشرين عاماً فجاء، متن هذه الرواية السَّردي (الذي طغى عليه طابع السرد الشعري) مؤلفاً من خمسة وعشرين فصلاً، صُدِّرت بنص افتتاحي (مدخلي)، هو عبارة عن حُلُمٍ رأته الرَّاوية في منامها، استيقظت، في نهايته على صوت انفجار أعقبه سكون! ولقد رأت في هذا المنام طليقها (الذي هو في الرواية دون إسم أيضاً)، بعد مرور زمن على طلاقهما، وقوام هذا المنام هو حديث مطوّل أسرَّ به إليها، عن حبه لها وحبّه للوطن.
رحلة مع الموت
لكن صودف أن هذا المنام، جاء تفسيره سريعاً على أرض الواقع، عندما علِمت الراوية، صبيحة يوم ليلة المنام، بوفاة طليقها (وزوجها هو ابن عمتها شقيقة والدها)، لا بسبب من هذا الانفجار الذي استُهدف به مسجد قريب من منزله، ومنزل أهلها في الحارة، بل بسبب ذبحة صدرية أودت بحياته، صُودف أن أصيب بها في وقت وقوع الانفجار!
تُوفي (طليقها) في بيته الذي تزوّجا فيه، ومن ثم تطلّقا لعدم التفاهم بينهما، وهو البيت الذي لم يكن (لزوجها) سوى مرحلة انتقالية، لكن هذه المرحلة الانتقالية دامت خمسة وعشرين سنة.
عقدت الراوية العزم على مرافقة جثمان طليقها إلى مثواه الأخير في عدن. وبالرغم من معارضة أهلها – تبعاً لتقاليدهم، لهذا التصرّف كطليقة، لكن إصرارها تغلّب في النهاية، وتمت موافقة أهلها على هذا الأمر، بعد جدال، ورافقت الجثمان إلى عدن مع أخويها، في سيارة أخيها الأكبر، وبعد الدفن مباشرة عادت مع أخويها، سريعاً من بيت عمتها، على أثر دفن الجثمان، لأنها لمست أنها لم تعد تربطها، بأسرة عمتها أية صلة عائلية تُذكر. هذا هو الإطار “الخارجي” للحكاية الكبرى لهذه الرواية. أما حكايات باقي شخصياتها النسائية، هي حكايات نساء تجمعهن هموم مشتركة مع الراوية، هموم كثيرة هي هموم الوقوع تحت ظُلم مجتمعهن الذكوري (كل واحدة يقع عليها الظلم الذكوري، بنموذج معين منه، تُظهره الِّرواية، وهو ظلم، أُضيف إليه ظلم الواقع الأمني، بسبب من التحولات السياسية والاجتماعية وأثرها على أوضاعهن، خصوصاً وعلى أوضاع الوطن بأكمله، عموماً. إذ تُشكّل معاناتهن جميعاً، مكامن الأوجاع الرافضة لظُلم هذا المجتمع، ولظلم الخوف على المصير الوطني برمته. وهنّ في الرواية مُعَرَّفات بأسمائهن، وبهوّياتهن المجتمعية، وهنّ كثيرات، ومن بينهن: “شوعية” و”غانية” و”حضية” و”فريدة”، والفتاتان “منال”، و”خاتمة”.
اقرأ أيضاً: «مسائل في احوال الجنوب اللبناني»..كتاب يستعيد تاريخ الحركة الثقافية في جبل عامل
هذا وأحد الشواهد الكثيرة في الرواية على الخوف على المصير، تُصوّره الرواية على لسان الراوية بقولها: “وظلّت حارتنا أبواباً مفتوحة لاستقبال الموت، وتحوّلت جدران المنازل الخارجية إلى معرض لصور الشباب الذين قُتلوا تباعاً في المعارك، وكان أغلب من قُتل منهم طلاباً لم يكملوا دراستهم الثانوية (ص14).
هذا الوضع المخيف تُصوّر هذه الرواية مشاهد مختلفة له، فنراه بتمظهراتٍ كلها تُظهر أنه – وبحسب الرواية – وضع خلقته سيطرة جماعة “الحوثيين” على الدولة، ومن ثم على حياة اليمنيين بأجمعهم. الذين باتوا مرغمين على العيش تحت حكم جماعة “الحوثيين”، أو على حد قول الرواية “هُم من أطلق عليهم الحوثيون، بينما يُطلقون (هم) على أنفسهم “أنصار الله” (ص20).
ولقد ساد الموت في هذه الرواية، كما تقول في مواضع كثيرة منها، وكما توحي في مواضع كثيرة، وكل ذلك بسبب من طبيعة الوضع المخيف المهيمن على شخصيات هذه الرواية، الذي أدى إلى سقوط ضحايا كثيرين، كان أحدهم، طليق الراوية الذي حضر جثمانه في الرواية حضوراً طاغياً، بتعريفه، وبرمزيّته، المتمثلة بـ”جنازة واحدة لموت كثير”، إذ هو الخيط الرابط لسرديّتها (وبكامل تقنياتها)، بدءاً من أول كلمة في متنها إلى الكلمة الأخيرة فيها. إذ إن زوج الراوية كان صحافياً وحدوياً على الصعيد الوطني، كان مع وحدة اليمن ومعارضاً للانفصال الوطني، وتقول الرواية أنه وبعد ما فشلت الوحدة، لجأ إلى “الصمت”، معتزلاً الكتابة، ومعتزلاً الحياة العامة، إذ إنه “حبس” نفسه في بيته، بعدما ساءت نفسيته كثيراً، ما أدى إلى وفاته بجلطة أودت بحياته مقهوراً، على موت الوطن.
لذا فإن الراوية، تمثلت موت هذا الرجل برمزيةٍ دالة على موت الوطن: “غُسِّل جثمان الراحل وكُفِّن، لنقله إلى مثواه الأخير في عدن”، وفي محطة من محطات طريق رحلة الجثمان إلى مثواه الأخير من صنعاء إلى عدن، أعلنت الراوية، (بعد قطع السيارة أول حاجز أمني على نقطة الخروج من صنعاء): “أجد نفسي الآن في تشييع جنازة الوطن المنكوب بجراحه القديمة. جنازة سبقتها وستلحقها جنائز كثيرة، لا فرق بينها”، (ص161). وهذه هي رمزية “جنازة واحدة لموت كثير”.
هذه الرواية انتهت بوعد راويتها لنفسها، بأنها ستحاول نسيان ما اعتبرته “وجعها الأخير”، وذلك على خلفية منطق بنائها لعالم روايتها هذه، بلغة مترعة بشفافيتها النقدية، المفتوحة الآفاق المشرعة، برمتها، على منطق حوار الحياة وإشراقاتها الإنسانية.