
من الواضح أن تغيراً هاماً حصل في أداء حزب الله، يكاد يقطع بالكامل مع الأداء المتوتر والتصعيدي الذي كان في ظل قيادة السيد حسن نصر الله. فالحزب يسّر عملية انتخاب الرئيس جوزاف عون، ومنح الثقة لحكومة نواف سلام، إضافة إلى التمنع عن الرد على انتهاكات إسرائيل لاتفاقية وقف إطلاق النار، ومتابعة أعمالها العدوانية من تقتيل وتدمير واغتيال لقياداته.
عزّز هذا الأداء تصريحات الشيخ نعيم قاسم المتعاقبة، التي تضمنت لغة غير مسبوقة ومواقف مبدئية بتحميل الدولة مسؤولية تحرير الأرض التي لم تنسحب منها إسرائيل، واعتبار لبنان كيانا نهائياً لجميع اللبنانيين، واعتماد اتفاق الطائف مرجعية وأساس للحكم في لبنان، ودعم الدولة للقيام بمهامها في الإعمار والإصلاح.
سقوط النظام السوري قطع عن الحزب كل خطوط الإمداد العسكري والمادي، وبات محاصراً من جميع الجهات
تناغم أداء حزب الله مع مواقفه الجديدة، يوحي بأن مراجعة ما تجري داخل حزب الله، ليس فقط لطريقة الأداء، وإنما أيضاً لكثير من الثوابت والمسلمات التي كانت بالأمس القريب من محرمات التداول وثوابت التفكير. فحزب الله انتقل من موقع المتحكم بالمشهد السياسي الداخلي في لبنان إلى موقع الساعي إلى تقليل الأضرار الناجمة عن المتغيرات الحاصلة، ومنحِه الثقة للحكومة الجديدة هو بمثابة تخلٍّ عن ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة، بل تجد قلةَ حماسةٍ من بعض قادة الحزب بالتمسك بدور سلاح الحزب الحصري في مقاومة العدو، والتأكيد على مسؤولية الدولة في تحرير الأرض والدفاع عنها.
متغيرات ليست عرضية
جاء هذا متزامناً مع استجابة الحزب للتغيرات الهائلة التي مثلت انتكاسة كبرى لمكانة لحزب الله الاستراتيجية ووضعيته السياسية. فسقوط النظام السوري قطع عن الحزب كل خطوط الإمداد العسكري والمادي، وبات محاصراً من جميع الجهات. كما إنّ تدمير إسرائيل شبه الكامل لبنية حزب الله العسكرية وتصفية معظم قياداته، لا يمكن التقليل من أثره المعطب لقدراته. يضاف إلى ذلك اتفاق وقف إطلاق النار، الذي تم بموافقة الحزب ويتضمن تخلياً ضمنياً عن سلاحه. ولا ننسى هنا دور الراعي الأمريكي للإتفاق الأخير، والذي يفسره الأمريكيون على أنه نزع لكامل سلاح حزب الله فوق جميع الأراضي اللبنانية.
تدرك قيادة الحزب أنها أمام تحدٍّ غير مسبوق، وأن التصدي له ومقاومته سيكون فعلاً انتحارياً، وفي المقابل ما تزال في موقع المتردد في إجراء التعديلات اللازمة
هي جميعها متغيرات، ليست عرضية وآنية بل تتسم بالديمومة والإستمرارية. يكون فهمها بأنها أحداثاً عابرة فهماً ساذجاً، وتكون العزيمة على مواجهته بنفس الأدوات والآليات السابقتين، سلوكا انتحاريا لا يخلو من حماقة. كونها متغيرات غيّرت وجه المنطقة، وقلبت موازين القوى، وأحدثت تعديلاً في خارطة اللاعبين الدوليين فيها، بخاصة بعد انسحاب ذكي من روسيا واندحار مهين للنظام الإيراني، وأنشأت تلك المتغيّرات ثوابت ومسلمات وتحالفات جديدة، لم يعد لحزب الله مكان أو دور فيها. ما نقله من قلب المشهد إلى هامشه، ومن صانعيه ومهندسيه إلى المتحصنين ضد تدعياته الخطرة على وجوده، الأمر الذي يفرض على حزب الله التخلي عن مواقفه النارية والتواضع في ادعاءاته، بل التكيّف الذكي مع الواقع الجديد، كونه يفتقد المقومات الموضوعية التي تمكنه من الوقوف في وجه تدفق هذه المتغيرات الجارف واندفاعها المقتحم.
تقية سياسية؟
السؤال المهم هنا، هل التحول الذي لمسناه في أداء وخطاب حزب الله، مجرد انحناءة مؤقتة أمام العاصفة، في انتظار طروء معطيات أخرى تكون لصالحه؟ أم هي مراجعة جدية وعميقة لا تقتصر على أداء حزب الله السياسي والعسكري، وإنما تشمل بنيته ومفاهيمه وولاءاته؟ أي هل نحن أمام تقيّة سياسية اتسمت بها سياسة حزب الله في الكثير من المحطات، أم أمام سلوك شفاف يترجم تحولاً داخلياً جدياً وحقيقياً؟
السؤال المهم هل التحول الذي لمسناه في أداء وخطاب حزب الله، مجرد انحناءة مؤقتة أمام العاصفة، في انتظار طروء معطيات أخرى تكون لصالحه؟
كلا التفسيرين محتملين، والمعطيات لا توفر لنا مؤونة إثبات كافية لأي منهما. فخطابات صف القيادات الأول متناقضة، بعضها يوحي بالتحول والبعض الآخر يوحي باستمرار النهج السابق والثبات عليه.
إقرأ أيضا: وصفه ترامب بـ«الوحش» وتسلمته الولايات المتحدة للمحاكمة.. من هو محمد شريف الله؟
البعض منهم يؤكد جدية الإلتزام بوقف إطلاق النار الأخير والبعض الآخر يؤكد أنه مؤقت ولا قيمة له. بل إن خطاب الشيخ نعيم قاسم نفسه يحمل مفارقات ورسائل متباينة ومتعارضة. فتجده يعطيك ما تريد بيد، ويسلب منك ما أعطاك باليد الأخرى. يعلن الدخول بكنف الدولة وفي الوقت نفسه يعلن ولاءه التام لنظام الولي الفقيه، يعلن مرجعية الدولة بتحرير الأرض، ويصر على استمرار دور لسلاحه، يصر على تطبيق اتفاق الطائف ولا يقدم ما يلزم لنزع سلاح جميع الميليشيات، بما فيها سلاح حزبه.
التناقض والتباين والتمويه في خطاب حزب الله يشي أن قيادات الحزب تدرك أنها أمام تحدٍّ غير مسبوق، وأن التصدي له ومقاومته سيكون فعلاً انتحارياً، وفي المقابل ما تزال هذه القيادة في موقع المتردد في إجراء التعديلات اللازمة والتحولات التي تضمن استمراريته وبقاءه في الوضع الجديد. قد يكون التردد نابعاً من سطوة المرجعية الإيرانية على القرار، التي ما تزال تعتبر ان حزب الله غبّ طلب ضروراتها السياسية والاستراتيجية.
إقرأ أيضا: مجلس الوزراء يقلع بنجاح في جلسته الاولى رغم غياب التعيينات..وقلق من اشتباكات سوريا
وقد يكون التردد نابعاً من قيادات الحزب، بعدم إدراكاهم لجدية المتغيرات وخطورتها وحجم التحولات التي ستحدثها في موازين القوى وقواعد اللعبة السياسية، بالتالي غياب تصور أو إرادة حاسمة للمراجعات التي يفترض بحزب الله القيام بها، والتي لا تقتصر على تغيير في الأداء أو الخطاب فحسب، بل تتطلب مراجعة جدية لأصوله التأسيسية التي جاءت استجابة لزمن آخر غير زماننا، وقامت على تأويلات دينية فاقدة الصلاحية.