
يبدو أن “استراتيجية البقاء” لدى الإرهابي المطلوب دوليًّا، حاكم الدولة العبرية قد اتخذت شكلًا جديدًا، فالتهديد “الببغائي” لبنيامين نتنياهو “بفتح الجحيم” على غزة، إذا لم يتم الإفراج عن جميع الرهائن الإسرائيليين بحلول السبت، تقليدًا لسيده الأميركي المهووس، المتنمِّر، باني قصور الرمال، المَرْمِيِّ بوصمات “جنون الانفصام عن الواقع” تارة، لتهديده مليوني شخص قَتلت أسلحتُه منهم خمسين ألفًا، برميهم فورًا خارج أرضهم التاريخية، و”السطحية في السياسة” تارة أخرى، وتارة ثالثة لمقاتلته ثلاثة أرباع الكوكب، من غزة إلى المكسيك وكولومبيا والسلفادور، ثم إلى كندا وبنما وغرينلاند والبرازيل، وبعدها الصين، ورابعًا لمعاداته الـ”سوبر باور” الثانية في العالم الاتحاد الأوروبي في ما خص أوكرانيا، وتمرده على حلف الناتو، ومحاولاته – كرمى لعيون إسرائيل – شل عمل الأونروا ومحكمة العدل الدولية، و”أحلام اليقظة” بتغيير خريطة العالم، دينيًّا “بأبعاد توراتية” كما ندَّ من لسان مساعده مايك هاكابي، وديمغرافيًّا بإحلال سكان آخرين مكان سكان غزة، وجغرافيًّا برسم خريطة جديدة لأوكرانيا وفرضها على حكامها الرافضين، وتسميتها “خليج المكسيك” بخليج أميركا، وإعلاميًّا بمنعها مراسل “أسوشييتد برس” من حضور فعالية في المكتب البيضاوي الثلثاء 11 شباط، لأن الوكالة لم تلتزم في أدبياتها بتسمية “خليج أميركا، وتقاضيه أموالًا من شركتَي “إكس” (تويتر سابقًا) و”ميتا بلاتفورمز” (معروفة تجاريًّا باسم “ميتا”)، لتسوية دعاوى قضائية كان رفعها عليهما (10 ملايين من “إكس” و25 مليون دولار من “ميتا”)، وعلى شركتين أخريين هما “فايسبوك” و”إنستغرام” بتهمة “إسكات آراء محافظة بما يخالف القانون”…. أما الخطوات التجارية التي اتخذها ترامب والتي استجلبت منازعات مع دول كثيرة (رفع التعرفات الجمركية التبادلية)، فليست تندرج في خانة العدوان على الآخرين، بل هي حق لرئيس كل دولة لمعالجة العجز التجاري مع الآخرين، ولن يتم التوسع فيها في هذا المقال.
ويترافق تهديد نتنياهو السالف الذكر، وتوعُّدُه بأن الحرب الجديدة ستكون مختلفة في قوتها، ولن تنتهي إلا بإخضاع حماس، مع “دكتاتورية ما بعد الزيارة الأميركية”، فقد نقلت صحيفة معاريف الإسرائيلية، وهي صحيفة من يمين الوسط معتدلة السياسة، نقلًا عن مصادرها، أن نتنياهو أكد في جلسة الكابينت، أن من لا يتماشى مع خطه لن يبقى في منصبه، مضيفة أن نتنياهو تحدَّث بتأثّر عن المخلصين حول الرئيس ترامب، وأن ذلك قد يحدث في إسرائيل، كما نقل موقع “أكسيوس” الإخباري الأميركي عن مصادر أميركية وإسرائيلية، تأكيد نتنياهو للكابينت حصول إسرائيل على دعم أميركي مطلق، لفعْلِ ما تريده في غزة، وأنه قدَّم خطة إلى مستشاري ترامب فاتفقوا معه على بعضها، وتقوم على تخلي حماس عن السلطة ومغادرة قادتها غزة، ما سيفتح الباب للحديث عن اليوم التالي للعدوان، والسيطرة في غزة، التي سيستأثر “عقاري البيت الأبيض” فيها بحصة الأسد، وتنص الخطة – ودائمًا وفق “أكسيوس” – على تمديد المرحلة الأولى لأكثر من 42 يوماً وإطلاق أكثر من 33 رهينة المتفق عليهم فيها، فإذا ما تم ذلك يُقترَح خلال مفاوضات المرحلة الثانية على حماس إنهاء الحرب، وإطلاق شخصيات لم توافق إسرائيل على إطلاقها، مقابل إطلاق جميع الرهائن لدى حماس ومغادرة كبار قادتها إلى المنفى.
يترافق تهديد نتنياهو السالف الذكر، وتوعُّدُه بأن الحرب الجديدة ستكون مختلفة في قوتها، ولن تنتهي إلا بإخضاع حماس، مع “دكتاتورية ما بعد الزيارة الأميركية”
وينقل “أكسيوس” عن مسؤولين إسرائيليين “كبار” (كما وصفهم) أن “حماس” وافقت على تسليم السيطرة المدنية في غزة إلى السلطة الفلسطينية، لكنها ترفض تفكيك جناحها العسكري، أما الذهاب إلى المنفى فاحتمالاته – وفق هؤلاء المسؤولين – “منخفضة للغاية”. خبر “أكسيوس” يرجِّح استئناف حكّام إسرائيل مجازر أجدادهم الأراغون والهاغاناه في حق شعب، أظهر صمودًا أعجز المحللين، يزيد أوار أتونها أبالسة الصهاينة كإيتامار بن غفير، الذي نقلت عنه يديعوت أحرونوت إغراءه نتنياهو، بالعودة إلى الحكومة إذا استأنف الحرب وأوقف النقاش بشأن المرحلة الثانية، ومنَعَ إدخال الوقود والمساعدات لغزة، الذي اعتبر أنه جعل إسرائيل “نكته الشرق الأوسط”، واستكمال هؤلاء الحكام التدمير الثاني شبه الشامل في تاريخ غزة الحديث مع الاحتلال البغيض (منشآت مدمرة تمامًا بنسبة 85 في المئة)، بعد أولَ في عملية “حوريب” في عام النكبة 1948 (وبين التدميرين سبعة تدميرات “جزئية” قام بهما مجرم الحرب نتنياهو نفسه)، وهي عملية حاولت فيها العصابات الصهيونية، احتلال غزة وطرد أهلها والجيش المصري المدافع عنها إلى مصر، ففشلت أمام استماتة هذا الجيش والمتطوعين المصريين والفلسطينيين، ورفضهم الانسحاب برغم سقوط أراضي النقب، ما منع سقوط غزة حتى “نكسة” عام 1967، ثم انسحاب أرييل شارون لاحقًا منها (في 2005).
تحرك متأخر لكنه أفضل من لا شيء
وتأتي هذه التطورات قبيل قمة عربية خماسية مصغرة في الرياض في 20 شباط الجاري وقمة طارئة للقادة العرب في 27 منه بالقاهرة، “لتناول التطورات المستجدة والخطيرة للقضية الفلسطينية”، وفق بيان للحكومة المصرية، و”لتعبئة موقف عربي ودولي لقيام الدولة الفلسطينية”، وفق تصريح للأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية حسام زكي لقناة “القاهرة الإخبارية” المصرية، في وقتٍ أعلنت الرئاسة المصرية، أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والملك الأردني عبد الله الثاني، شددا في اتصال هاتفي على أهمية وضع خطة عربية موحّدة، لإعادة إعمار قطاع غزة فورًا، وعدم تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه، وأن موقفي مصر والأردن موحدان، حول ضرورة التنفيذ الكامل لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة.
وها هو السبت قد حلَّ من دون تنفيذ الجانبين الأميركي والإسرائيلي عنترياتهما الكلامية الفارغة، بل حدث ما كان مقررًا في المرحلة الأولى، بعد أن أوصل الجانبان القطري والمصري إلى حماس، رضا إسرائيل بالعودة إلى الاتفاق وإطلاق الرهائن الثلاث فقط السبت، فأبلغت حماس بأسمائهم مساء الجمعة، واشترطت التزام إسرائيل بالمطالب الإنسانية المتضمَّنة في الاتفاق، وأهم بنودها إدخال مياه الشرب والكرفانات المتنقلة والمنازل المؤقتة والخيام إلى القطاع، الذي يعيش أهله العائدون بجوار أنقاض بيوتهم في خيام مهترئة، وكذا إدخال معدات إزالة الركام، والوقود للتدفئة وإنارة غزة التي تعيش في ظلام دامس.
ها هو السبت قد حلَّ من دون تنفيذ الجانبين الأميركي والإسرائيلي عنترياتهما الكلامية الفارغة، بل حدث ما كان مقررًا في المرحلة الأولى
لا هجوم مضاد والساحة لعقلاء الأميركيين،
الهجوم المعاكس على ترامب المتهور وبلاده، لمّا يبدأ بعد، لعلم الدول التي طاولها هذا التهور أن تصريحاته ستبقى مجرد فقّاعات كلامية، إذا لم تترجَم إلى أفعال، وأنه لا بد أن يكتشف تناقضها الصارخ مع واقع عالم اليوم وزيفها وخياليتها ومراهقتها السياسية وخطرها، وهي أمور سبقه إليها كثيرون من فقهاء السياسة في بلاد العم سام، عبروا عن رفضهم الصارم لفكرة استيلاء الولايات المتحدة على الأراضي الفلسطينية، لأنها تنطوي على جرائم حرب أميركية، وترحيل قسري وتواطؤ في إبادة جماعية، فقد نقلت صحيفة “نيويورك تايمز”، توقع هؤلاء اختفاء فكرة ملكية غزة، بعد أن اتضح عدم قابليتها للتطبيق، وأنها سببت “صدمة” لكبار أعضاء الإدارة، إلى درجة أنه لم يتم حتى التخطيط الأساسي لفحص جدواها، ونقلت عن السفير الأميركي السابق بإسرائيل دان شابيرو، أن مقترح ترامب قد يؤدي لمزيد من التطرف، أما موقع “المجلس الأطلسي” فنقل قول مسؤول الاستخبارات السابق جوناثان بانيكوف، أن خطة ترامب “غير متوقعة التطبيق، فهو لا يفهم ولا يهتم بتاريخ المنطقة وتعقيدات العلاقات الفلسطينية العاطفية بأوطانهم، وكذلك تداعياتها المحتملة على الولايات المتحدة”، وقول أليكس بليتساس الرئيس السابق لمشروع مكافحة الإرهاب في البنتاغون، أن “امتلاك غزة سيحمل معه مخاطر كبيرة وخطر المقاومة المسلحة، نظرًا للحساسية السياسية للمنطقة”.
وقد تخطى بعض هؤلاء حدود تدوير زوايا الكلام نحو الواقعية الفجة، فكتب خبير العلاقات الخارجية ستيفن كوك في مجلة “فورين بوليسي”، أن “امتياز الرئيس هو أن الناس يجب أن يأخذوا بما يقوله برغم سخفه، وهكذا الحال مع اقتراح ترامب التطهير العرقي لقطاع غزة، وتملك المنطقة”، وأضاف أن “الصراع في غزة على رأس المشاكل الصعبة للغاية ويحتاج إلى أفكار جديدة، لكن اقتراح ترامب إخراج مليوني فلسطيني من أرضهم مفلس أخلاقيًّا، بل هو جنون محض وسينهي أي تطبيع مع السعودية، ولربما يقوض معاهدات السلام بين مصر والأردن وبين إسرائيل”. وأشار ناتان ساكس الخبير بمعهد بروكينغر، أن ” المعارضة الفلسطينية للخطة ستظل شديدة، فصمود الشعب في غزة وغيرها، في مواجهة الشدائد هو قيمة فلسطينية تأسيسية منذ عام 1948 لا تزال حية فيهم”.
الظلم مؤذن بزوال الدول
فما على هؤلاء العقلاء إلا أن يضربوا على يد رئيسهم، الذي تعاظم في ذهنه الوهم الإمبراطوري، قبل أن يستفحل خطره ويتحول تهديدًا بزوال الإمبراطورية الأميركية، التي كثُرَ مبغضوها قبل أوانها الطبيعي، التي استعجلته بكثرة الظلم، كما يقول ابن خلدون رحمه الله: “اعلم أن الظلم مؤذن بخراب العمران، ولا تحسبن الظلم أخذ المال أو الملك، من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور، بل الظلم أعم من ذلك، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وغُصاب الأملاك على العموم ظلمة، ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران”.