
وأخيرًا ظهرت الحكومة، التي لا نفوذ فيها طاغيًا لأحد، والتي بإمكانها العمل براحة أكبر من الحكومات السابقة، بعد تشاؤم ساد الأجواء، نتيجة فشل اجتماع قصر بعبدا الثلاثي الأخير، الذي فوجئ فيه رئيس مجلس النواب نبيه بري، بأن زمان فرضه الشروط تحوَّل، فبعد رفضه مرارًا اسم الوزير الملك “الخامس” لمياء مبيِّض أُتي بغيره في هذا الاجتماع، وهو الوزير فادي مكي، فاستمسك بالرفض مذهبًا، ليُجبَه من رئيسَي الجمهورية جوزاف عون والمكلف نواف سلام، بقول شديد الوضوح أن هذه هي الأسماء الأخيرة، فاقبل أو ارفض، وحسنًا فعلا، وليتهما اتَّبعا مبكرًا ما كان افضل للبنان وتصديا ايضاً لاحتكار “مغارة الثنائي”، وما الله به أعلم من الحرامية، أي وزارة المالية، ولكن من يدري، عسى ما كُره أن يكون خيرًا، فخرج بري مغاضبًا وغادر من باب خلفيّ تجنّبًا للصحافيين، وخرج الرئيس سلام من دون الإدلاء بتصريح.
ويُخيل أن الرئيس المغاضب اختلى تلك الليلةَ بنفسه، فعلم بحنكته السياسية وتخضرمه، اللذين نسج خيوطَهما نصفُ قرن في السياسة، ثلثاه تبوأ بهما منصبًا جعله صاحب أطول مدة في الحكم عالميًّا، أن اللعبة انتهت، وأن مشواره بدأت نهايته، فلم يتأخر من الانضمام بعد إعلان الحكومة الجديدة، إلى ضلعَي المثلث مبتسمًا، ولسان حاله “إذا لم يكن ما تريد فأَرِدْ ما يكون”.
بداية جيدة فهل من مزيد؟
“بعض ما صدر عن نائبة المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط مورغان أورتاغوس من بعبدا يُعبّر عن وجهة نظرها والرئاسة غير معنيّة به”، كان ردَّ قصر بعبدا على بعض ما قالته أورتاغوس أمام بابه، وللشهادة هو بداية جيدة، ويطمع اللبنانيون إلى مزيد، إلى أن يُطلب بلطف – إذا لم يكن “التنبيه” مستحبًّا للحكم الجديد – من الدبلوماسيين الأميركيين تحديدًا أن يتخلوا عن الرؤوس الحامية في العمل الدبلوماسي، وأن يلتزموا بأصول اللياقة في كلامهم، ولا يتقمصوا دور الوصي على اللبنانيين وحكومتهم. ليس مستغربًا ما قالته أورتاغوس من حيث المضمون، فهو لسان حال طبيعي لمسؤولي بلد، رفع منذ 1948 راية حماية وجود الفايروس الخبيث إسرائيل في جسد العالم العربي بكل قوة، أما من حيث الشكل فمرفوض ولو كان “وجهةَ نظر” كما ورد في بيان الرئاسة، إنْ من هذه الدبلوماسية “الغضة” التي تمارس زيارة العمل الأولى لها خارج الولايات المتحدة – كما قالت – أو من غيرها من الدبلوماسيين الأميركيين، الذين سيرمينا بهم ترامب المستفز المتنمِّر المهووس بالعظَمة والمحتقِر مَن دونه، والناظر إلى العرب والفلسطينيين، نظرة رعاة البقر إلى الهنود الحمر، أو نظرة الأسياد إلى العبيد إلى درجة لم تُشهَد في أي رئيس قبله.
اللبنانيون يقررون وليس أورتاغوس وغيرها،
من دون استفزاز أو إنكار للحجم أو عيش في الأحلام أو إبداء لعنتريات، أو مقاتلة لطواحين الهواء، ليقولوا للدبلوماسية “صاحبة المهمة الأولى” أنهم يقدرون الجزء البنّاء في كلامها كثيرًا، وهو المتعلق بشراكة البلد الأعظم ماديًّا أميركا للبنان، في محاربة الفساد والإصلاحات، وخصوصًا تأكيدها خروج القوات الإسرائيلية من الأراضي اللبنانية في 18 شباط الجاري، أما قولها: “حزب الله قد هزم، ونحن ممتنون لحليفتنا اسرائيل للقيام بذلك”، ودعوتها الرئيسين عون وسلام إلى أن “يتم التأكد من ان حزب الله لن يكون جزءًا من الحكومة وأن يبقى منزوع السلاح”، وقولها: “لدينا آمال كبيرة في أن رجالًا ونساء ذوي مصداقية سيتاكدون من أن نفوذ حزب الله سينتهي”، وإن عدم إرهاب حزب الله الشعب اللبناني “لن يتحقق إلا بأن لا يكونوا جزءًا من الحكومه”…
الواقعية السياسية لدى قيادييها، وليس التعقّل الذي لا يتصفون به، ستجنح بهم إلى قبول، أن دورهم السابق قد أزف بالزوال
فهذا يستميح اللبنانيون الدبلوماسية الأميركية عذرًا بأنه شأن لبناني محض، وأن اللبنانيين أدرى – بقيادة حكمهم الجديد – بكيفية التعامل مع حزب مكسور وجمهوره، بطريقة لن تسبب مضاعفات مستقبلية، وخالية من التشفي والانتقام والشماتة والإبعاد والقهر والإذلال، فالشيعة مكون أساسي في هذا البلد، أما ما تفتقت أوداجُها لإظهاره برغم الابتسامة الجميلة من إبعاد “حزب الله”، فان الواقعية السياسية لدى قيادييها، وليس التعقّل الذي لا يتصفون به، ستجنح بهم إلى قبول، أن دورهم السابق قد أزف بالزوال. فما على الدبلوماسية الجميلة سوى التكفل بالجانب الإسرائيلي، والتزامه بالانسحاب، وتدع الداخل اللبناني للبنانيين.