طائرة “الدرون” الإسرائيلية التي ظلت تحلّق على علوٍ منخفضٍ في سماء بيروت وضواحيها الجنوبية والشرقية، بما فيها بعبدا واليرزة، إعتباراً إثر انتهاء جلسة الانتخاب الرئاسية، كانت تستفز وتتحدى وتهدد، وتفرض أولوية على الرئيس جوزاف عون، لم تغب أصلاً عن خطاب القسم الرئاسي، الذي ردّ من خلاله على الإتهام الإسرائيلي المكرّر للجيش اللبناني بالتباطؤ في تجريد “حزب الله” من السلاح.. على الرغم من أن احداً في لبنان لا يجادل في أن الجنوب سيكون أولاً، ووقف النار الدائم بعد السابع والعشرين من الشهر الحالي، هو المدخل الطبيعي لانطلاق العهد الجديد. فهذا هو “التفويض” الذي حدد هوية الرئيس اللبناني ال14..والذي ومن دونه لن تكون هناك رئاسة ولا بلد، إذا ضاعت هدنة الستين يوماً سدى.
انتخاب الرئيس جوزاف عون هو بهذا المعنى تتويج سياسي لإتفاق وقف النار، الذي خرقته المسيرة الإسرائيلية، مساء، مثلما كانت تخرقه قوات الاحتلال، طوال النهار الانتخابي الطويل في بيروت، بتفجير عدد إضافي من البيوت في قرى الشريط الأمني الحدودي. المساران متلازمان: لبنان ينتخب، إسرائيل تعتدي.. والالتزام بوقف النار مازال محكوماً بالشروط نفسها، والمهلة الزمنية تقترب من نهايتها الحرجة، من دون أن يبدو في الأفق ما يشير الى إمكان الفصل بين المسارين، سوى النوايا الحسنة التي يبديها الرئيس الجديد، والنواب الذين انتخبوه أو عارضوه، من دون كثير إهتمام بالاولوية الجنوبية.
في جلسة الانتخاب ضحكت سفيرة أميركا أكثر من مرة تثاءبت مراراً وربما غفت أيضا ربما لأنها تدرك أن السعودية وليس أميركا هي التي صنعت المشهد اللبناني الجديد
واذا تم الفصل، لسبب أو لآخر، فان سوريا لن تُمهل الرئيس الجديد، الذي اطلق وعده المباشر بحوار “جدِّي وندِّي” مع دمشق وحكامها الجدد، حول ضبط الحدود ووقف التهريب وإعادة النازحين السوريين الى بلادهم. وهي مهمة، تحظى أيضاً بالاجماع اللبناني، لكن إنجازها يمكن ان يحتاج الى عهدين رئاسيين مقبلين في لبنان، والى عهد رئاسي مختلف في سوريا، يكون متحرراً فعلاً من إرث البعث وتجربته السيئة في إدارة العلاقات بين الشعبين والبلدين، اللذين يتفقان على حاجتهما الى إعادة بناء الدولتين من نقطة تقرب من الصفر.. بعدما عاثت بهما معا الحرب والفراغ والفوضى والفساد.
سوريا هي أيضا أولوية مطلقة، ومخاطرة إلزامية. لكنها، مع الأولوية الجنوبية، تتطلب الكثير من الدبلوماسية والوطنية، والقليل من النظر الى الوراء. موقف لبنان الضعيف لا يحتاج الى أدلة. و”السيادة” التي تغنى بها بعض النواب في جلسة الامس، لم تكن يوماً أكثر من مزحة سمجة، يتبادلها الخصوم في المناسبات الرسمية، وفي الحروب الاهلية. لكنها حق مشروع، لم يكتسب حتى الآن، ولن يكتسب في المستقبل القريب، إلا بترسيخ الأسس الشرعية للهوية الوطنية اللبنانية.
بخلاف الشائع لن يكون جوزاف عون رئيساً لملء شغورٍ دستوريٍ عمره سنتان ونيف بل لسد فراغ سياسي ممتد منذ نحو 45 عاماً
لكن هاتين الاولويتين الحدودتين، مع إسرائيل ثم سوريا، لن تختزلا عهد الرئيس جوزاف عون، ولن تختصراه أبداً. ثمة في الداخل اللبناني، نداء شعبي حقيقي، يطلب الشروع في إعادة ترميم الدولة ومؤسساتها غير العسكرية، طالما أن المؤسسة العسكرية الأم محفوظة ومصانة ومُهابة، وطالما ان قائدها رُقِّيَ الى المنصب السياسي الارفع، بما يشبه التحدي لمختلف القوى السياسية التي صوتت له، مُجبرة أو مُكرهة، بعدما نشرت الخراب في جميع انحاء البلاد، وعلى طول حدودها، ولم تتمكن من التوافق على رئيس بديل يستكمل عملية التخريب والتدمير.
إقرأ ايضاً: مؤتمر بعنوان «السياسة الجديدة تجاه النظام الإيراني» في باريس: إسقاط نظام ولاية الفقيه بات وشيكاً!
وبخلاف الشائع، لن يكون جوزاف عون رئيساً لملء شغورٍ دستوريٍ عمره سنتان ونيف، بل لسد فراغ سياسي ممتد منذ نحو 45 عاماً. هو قال إنه يحسب زمن الفراغ الذي أفرغ لبنان “من الحكم والحكام”، منذ لحظة إنقطاع اللبنانيين عن تنفيذ اتفاق الطائف بكامل بنوده. وأوحى بانه يلقي على نفسه، مسؤولية جديدة، ويحدد لرئاسته دوراً لن يكون بالإمكان تقييمه بمعزل عن قوة الهزة التي سيحدثها في البنى السياسية التقليدية التي عطّلت البلد، واستدعت كل أنواع التدخل الخارجي، بما فيها العدوان الإسرائيلي المتواصل حتى اللحظة بلا هوادة. هو بالتعريف رئيس من خارج النادي السياسي المافيوي. وهو بالتكليف على خصومة مبدئية مع جميع أعضاء هذا النادي. والتقدير سهل جدا لمستقبل “التيار”، الذي سينتهي ولن يبقى منه سوى رئيسه، وللحركة أو الحزب أو الأحزاب التي لن تصمد حتى نهاية ولايته الرئاسية، ولن تستطيع تقديم لوائح موحدة للانتخابات النيابية المقررة بعد سنة وخمسة أشهر فقط.
سوريا هي أيضا أولوية مطلقة ومخاطرة إلزامية لكنها مع الأولوية الجنوبية تتطلب الكثير من الدبلوماسية والوطنية
في جلسة الانتخاب، ضحكت سفيرة أميركا أكثر من مرة، تثاءبت مراراً، وربما غفت أيضا. ربما لأنها تدرك أن السعودية، وليس أميركا، هي التي صنعت المشهد اللبناني الجديد، وهي التي إستبعدت قطر وعبثها الاخير، من لبنان (ومن سوريا ايضاً)، وعادت، لتتولى الإدارة المباشرة للبلدين، وتنظيم علاقاتهما، بعد غياب بدأ إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري قبل عشرين عاماً، بل إثر تعطيل اتفاق الطائف قبل 45 عاماً.