وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: خطاب رئاسي بسردية حكم جديدة 

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

أخيراً انتُخِب رئيسٌ للجمهورية اللبنانية. حدث لم يكن استجابة لتحولات داخلية في لبنان، أو بسبب دينامية الحياة السياسية فيه، أو صحوة ضمير وطنية من مسؤوليه. فالمشهد كان بتوقيت وهندسة خارجيين وبتعليب نيابي، ليأخذ شرعية داخلية. جاء ترجمة لمتغيرات إقليمية كبرى، وربما دولية أيضاً، هي أكبر من أن يواجهها اللاعبون الداخليون، أو يغيروا من تدفقاتها أو يمتصوا ارتجاجاتها. بل هي أكبر من أن يتذاكى عليها اللبنانيون، أو يعمدوا كعادتهم إلى المناورة والإلتفاف حولها. فلم يعد أمام أحد، بمن فيهم المتضررون من تبعات هذه المتغيرات ومآلاتها، إلا والرضوخ لإملاءاتها والتجهز للتكيف مع الوضع الجديد، الذي يحمل معه معالم قواعد لعبة جديدة، ويفتح الباب واسعاً لمجيء لاعبين جدد.

جاء انتخاب الرئيس الجديد ترجمة لمتغيرات إقليمية كبرى، وربما دولية أيضاً، هي أكبر من أن يواجهها اللاعبون الداخليون

مثل مشهد انتخاب رئيس الجمهورية، محطة اختبار ناجحة، لعملية تدشين مرحلة سياسية جديدة في لبنان، تترجم حجم المتغيرات الكبرى التي طالت المنطقة. مرحلة تتضمن في تداعياتها الداخلية تشكل موازين قوى جديدة، وتحولاً في أوزان ومقادير القوى السياسية الحالية، وفي مقدمهم “حزب الله”.

إقرأ أيضا: «سَكرة» الثنائي تنتهي وتأتي «الفَكرة»: إعادة الاعمار والسلاح..وإسرائيل تعود للإغتيالات جنوباً!

فبعد أن كان “حزب الله” منذ اتفاق الدوحة، صاحب الكلمة الأخيرة في تقرير سياسات الدولة العامة، وممسكاً بمفاصل الحياة العامة في لبنان، إذا به في مشهد انتخاب رئيس الجمهورية، يتصرف بما يناسب حجمه التمثيلي المحدود، وينتقل من كونه صانع لرؤساء الجمهورية وللحكومات، إلى كتلة نيابية تتكيف مع الترتيبات الجديدة الآتية من الخارج، رغم أنها تنزع إلى عزل “حزب الله” والتضييق عليه.

مثل مشهد انتخاب رئيس الجمهورية، محطة اختبار ناجحة، لعملية تدشين مرحلة سياسية جديدة في لبنان، تترجم حجم المتغيرات الكبرى التي طالت المنطقة

غاية ما استطاع “حزب الله” فعله في لحظة انتخابات الرئاسة الأخيرة، هو انتزاع وعود بضمانات مستقبلية تخصه. هو سلوك تحركه ذهنية “من بعدي الطوفان”، حين يقايض بطريقة الإبتزاز قيامة لبنان، والخروج من الفراغ الدستوري بأثمان وحصص، على هامش المشهد الجديد، ويعبر هذا السلوك في الوقت نفسه، عن إقرار ضمني من الحزب بأنه بات على هامش المشهد السياسي وخارج صُناعِه ومهندسيه، بعدما كان في السابق محوره ونقطة ارتكازه.

غاية ما استطاع “حزب الله” فعله في لحظة انتخابات الرئاسة الأخيرة، هو انتزاع وعود بضمانات مستقبلية تخصه. هو سلوك تحركه ذهنية “من بعدي الطوفان

وقد مثَّل خطاب الرئيس جوزاف عون، في منطقه وأولوياته وبنوده، لغة جديدة غير مسبوقة. خطاب يفكك وضعية سابقة، ويزحزح ثوابت لم تكن تقبل البحث أو المراجعة، ويطرح أرضية جديدة، تتمحور جميعها حول مركزية الدولة وسيادتها الكاملة، وكفاءة أجهزتها الأمنية في توفير الأمن والأمان. ما يوحي بنحو الإشارة الضمنية بأن سلاح “حزب الله” بات فاقداً وظيفته ومهمته، بالتالي مسوغه وجدواه. فبعد أن بات سلاحاً فاقد الشرعية دولياً، إثر اتفاق وقف إطلاق النار الأخير مع إسرائيل، الذي ينص بصراحة في بعض بنوده على ملاحقة هذا السلاح، أينما وجد على الأراضي اللبنانية، جاء إعلان الرئيس جوزاف عون الصريح، بحصرية مهام الدفاع وأمن الحدود بالجيش اللبناني، وحصرية السلاح بيد الدولة، بمثابة سحب الغطاء الداخلي عن سلاح “حزب الله”، وإلغاء كل المعادلات الداخلية، التي جعلت من السلاح محور السياسات الداخلية وأساس صناعة القرار، وفي مقدمها ثلاثية الجيش-الشعب-المقاومة.

مثَّل خطاب الرئيس جوزاف عون، في منطقه وأولوياته وبنوده، لغة جديدة غير مسبوقة

مثَّل خطاب جوزاف عون الرئاسي سردية جديدة، تقطع بالكامل مع سردية “الممانعة”، بكل أدبياتها وقيمها ورموزها وسطوتها ومرجعياتها، وبمثابة بيان رسمي بخروج لبنان نهائياً من الفلك الإيراني، وانضمام لبنان إلى محور إقليمي- دولي آخر، ينسجم مع بُعد لبنان العربي، وخصوصية التنوع والتعدد فيه، ونزعة المبادرة الفردية المتأصلة في الشخصية اللبنانية. إضافة إلى أنه يوفر للبنان فرصاً أفضل، لنهضته وتعافيه وازدهاره الاقتصادي، وشروطاً مناسبة تستعيد به الدولة الكثير مما انتزع منها.

مثَّل خطاب جوزاف عون الرئاسي سردية جديدة، تقطع بالكامل مع سردية “الممانعة”، بكل أدبياتها وقيمها ورموزها وسطوتها ومرجعياتها، وبمثابة بيان رسمي بخروج لبنان نهائياً من الفلك الإيراني

مجيء جوزاف عون رئيساً، بداية عهد مليء بالوعود والآمال والتطلعات. لكنه يقف على أرضية مفككة وهشة. ما يجعل الفجوة بين ما يرغب فيه اللبنانيون، وبين قدرة الواقع على الإستجابة لهذه الرغبة واسعة وعميقة.

إقرأ أيضا: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: إنتصار يتحدى بديهيات العقل!

فجوة لا يردمها إزالة الموانع وتدفق الأموال من الخارج والرعاية الدولية، وإنما خلق واقع جديد تقع مسؤولية ابتكاره وإبداعه على اللبنانيين وحدهم. لننتهز فرص الخير.. فإنها تمر مر السحاب.       

السابق
الطقس: منخفض جوي متوسط الفعالية.. ولبنان أمام تغييرات جوية كبيرة
التالي
ميقاتي غادر الى سوريا في زيارة رسمية تلبية لدعوة من أحمد الشرع