«التبعية» و«التقديس».. قراءة نفسية في «المعايير غير البشرية»

النفسيون

لم يكن لتقديس الشخص أن يحصل، لولا معاناة “مؤلّهِه” من اللاأمان، الذي يثقل حياته ويؤثر على جوانبها كافة، وأولها السيكولوجي.

من الطبيعي أن يدفع القلق بصاحبه، إلى محاولة التخلص من عبئه، فيسعى إلى التفتيش عما يساعده على استرجاع توزانه النفسي. وتتبدّى التبعية المطلقة لشخص “مخلّص”، أحد أبرز “الميكانزمات” التي قد يلجأ إليها الفرد عموماً، وسيما فاقد الحصانة النفسية، من أجل مواجهة شعوره بالضعف وتخطيه. كما تظهر لديه سلوكيات، يمكن وصفها باللاعقلانية و العدوانية تجاه الذات أو الآخر، لتترجم عملانياً هذا التعلق المرضي.

طالعنا التاريخ البشري بالكثير من الأحداث، التي ألقت الضوء على تقديس أشخاص، بحيث تحول العديد من الملوك و الرؤساء و الزعماء.. إلى “أنصاف آلهة” أو حتى “آلهة”. ولسنا هنا في صدد مقاربة وثائقية لهذه الحالات، إلا أن عرضاً سريعاً وموجزاً لبعضها، يبيّن أن الحاجة إلى هذا النوع من العبادة رافق المجتمعات البشرية منذ ظهورها.

جسّد فراعنة مصر، نموذجاً مثالياً عن عبادة الأشخاص، حيث مارسوا السلطة المطلقة بوصفهم آلهة “أحياء”. وتصرّف ملوك ما بين النهرين، وأبرزهم حمورابي، في الحكم على أنهم مختارون من الآلهة. كذلك الأمر بالنسبة إلى أباطرة الرومان، الذين مثّلوا هذه الأخيرة على الأرض، فأجازوا لأنفسهم التحكّم المطلق بالرعية.

جسّد فراعنة مصر، نموذجاً مثالياً عن عبادة الأشخاص، حيث مارسوا السلطة المطلقة بوصفهم آلهة “أحياء”

وفي العصور الوسطى، مورست السلطة بإرادة الله أو مشيئته، مانحةً للإستبداد شرعيته. وبدوره، شكّل القرن العشرون دفعاً لإعادة انطلاقة تأليه الأشخاص، نذكر منهم ستالين و هتلر و ماو… و من جهته حفل العالم العربي بمثل هذه النماذج، أبرزها صدام حسين وحافظ الأسد، اللذين مارسا حكمهما بالمطلق، بالإضافة إلى جمال عبد الناصر، وإن بقدر محدود. و جاءت البروباغندا بعد أن أضحت أكثر تقدّماً، لتؤدي دورها في تسويق هؤلاء كدائمي الوجود و “معصومين”. وأما فيما يتعلق بظاهرة الولي الفقيه، الذي ينوب عن الإمام الغائب و “المنتظَر” في قيادة الأمة و إدارة شؤونها، فإنها تشكل مثالاً حياً عن عبادة الفرد.

يعد تناول انعكاسات تأليه الأشخاص، من منظور سيكولوجي، ضرورةً و حاجةً في الوقت عينه، لأنه يسهم في القاء الضوء على مآله الخطيرة والدقيقة، على الفرد والمجتمع في آن معاً.

تعني عبادة الفرد إحاطته بهالة مقدّسة، بحيث تناط به معايير “فوق بشرية”. ويتم النظر إلى كل ما يقرّره أو يقوم به، على أنه إشارة من عند الله. لذلك تعد مساءلته ذنباً كبيراً، بحيث يأتي على صاحبه بقصاص ينفّذه أفراد أو (أدوات) “غيارى” على المعبود. بتعبير أوضح، يسعى هؤلاء إلى ترهيب من يتجرّأ على انتقاد “قدّسيهم”، وفي أحيان كثيرة يعمدون إلى تصفيته جسدياً. كما تتجلى هذه العبادة بقوة، من خلال تقديس مقتنيات و صور و تماثيل عائدة إلى المؤلَّه.

تعني عبادة الفرد إحاطته بهالة مقدّسة، بحيث تناط به معايير “فوق بشرية”

لا ينحصر هذا التأليه في السياق الديني فحسب، و إنما في الحياة السياسية، كما أشرنا، حيث يتبدى هدفه في السيطرة المطلقة على الأفراد. ومن هذا المنطلق، يحمل مخاطر كبيرة تهدد الحس النقدي، لأنه يمنع الفرد من التحليل الموضوعي والرؤية العقلانية لكل ما يحيط به من أحداث.

ترجع الحاجة إلى الأمان، التي تقف وراء تقديس الآخر، إلى مرحلة الطفولة، بحيث يتعلق الطفل بوالديه، أو من ينوب عنهما في رعايته، لكي يحمي نفسه ضد الشعور بالقلق. و مايحصل هو أنها ترافقه طوال حياته، فيستبدل صور التعلق هذه بأخرى، من أجل الحفاظ على استقراره النفسي. وبدوره، يشكل الميل إلى الاقتداء سبباً لتقديس الآخر، الذي قد يتم التماهي معه بالمطلق. مما يودي بفرادة الشخص ليس فقط على المستوى السيكولوجي فحسب، و إنما الفكري. وفي النهاية، تقول الصورة “طبق الأصل” كلمتها، ومن ثم تتحول “الرعية” إلى نسخة موحَّدة!

تؤدي وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي دوراً كبيراً، في دفع طائفة أو جماعة معينة إلى تأليه زعيمها

ومن جانب آخر، تؤدي وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي دوراً كبيراً، في دفع طائفة أو جماعة معينة إلى تأليه زعيمها. إذ “تسوّقه” على أنه المخلّص، وتجذّر صورته “المقدَّسة” في الأذهان عبر عرضها كأيقونات، بالإضافة إلى الأناشيد المشحونة بروايات بطولاته، واقعية كانت أم مصطنعة.

و بدورها تعكس عبادة الآخر سوء تقدير للذات، وذلك عندما يسقط الفرد على المعبود، صفات ومزايا يظن أنه محروم منها، كالذكاء والقوة والنباهة والقدرة على اتخاذ القرارات الصعبة… بهدف حماية نفسه من الشعور المؤلم والمرتبط بالشعور بالدونية. وهنا، تظهر أوالية الاسقاط “ميكانزماً” دينامياً يحرّك تأليه الزعيم. كما يمكن لصدمة كبيرة أن تلقي بصاحبها، في التعلق شبه المطلق بالآخر من أجل تخطي ما يعانيه من فوضى نفسية. وفي هذه الحال، تتبدى التبعية وسيلة دفاعية، يستخدمها الفرد بهدف مواجهة الشعور بالقلق والخوف مما هو آتٍ.

يلقي تقديس الآخر بتبعاته السلبية على الحياة النفسية، لأنه يولد عند الفرد خوفاً من الاستقلالية وقلقاً من المبادرة. وإذا ما بحثنا في السبب الذي يقف وراء هذه الوضعية الصعبة، يتبين لنا أن التعوّد على تبعيته للمعبود، يطلق لديه عدم الثقة في النفس. وفي هذه الحال، يجتاحه الخوف من التحرر من تعلقه، ظناً منه أن سيسترجع الشعور الكدر باللأمان. وتكمن خطورة مدى الاستلاب، الذي يودي بالفرد نتيجة تقديسه للزعيم، في رفضه لفكرة موت معبوده الخالد!

وبالمقابل، يظهر المعبود، في أحيانٍ كثيرة، عاجزاً عن حماية “مواليه”، فيختبرون عندئذٍ الاحباط و الخسارة و خيبة الأمل. كذلك الأمر، يهدد تأليه الفرد العلاقة الشخصية، في جعلها مضطربة و غير متوازنة، فيسيطر المعبود بالمطلق و يخضع الآخرون بشكل تام.

يظهر المعبود، في أحيانٍ كثيرة، عاجزاً عن حماية “مواليه”

و قد لا يوفر التأليه ” المقدَّس” نفسه، بل ينتهك حياته النفسية و يوقعه أسير عقدة الاضطهاد، فيحوله إلى عظامي أو يحرّف نرجسيته عن سويتها، نتيجة لتعظيم شأن “أناه”. ومن هذا المنطلق، يمكن القول أن هذه الحال، ما هي إلا استجابة مرضية على عبادته.

وبما أن تقديس الفرد يحمل الكثير من المخاطر على الفرد، فإنه من الطبيعي أن ينعكس سلبياً على المجتمع لأنه يعزز ثقافة القطيع، ويعدم إلى حدّ كبير الوعي الفردي والتفكير العقلاني. مما يزيد من بؤر البؤس والتخلف الاجتماعي. لذلك وجب وضع حدّ لهذه الظاهرة الخطيرة، حتى وإن بدا ذلك شبه مستحيل في المجتمعات المتخلفة، وسيما في لبنان حيث يتم توظيف الديني أو الطائفي، على قياس مآرب تتجاوز حدود مصالح مواطنيها.

تتبدى النظرة النقدية للواقع، عاملاً أساسياً يقي الفرد من الوقع ضحية للتبعية المطلقة. إذ تجعله يرى أن زعيمه “المعبود” ليس استثنائياً، بل هو محدود القدرات، كما تسهم في حثه على التساؤل حول أسباب التقديس.

ويأتي تعزيز الاستقلالية العاطفية، عبر تمتين الثقة في النفس وتقدير الذات، بالإضافة إلى مساعدة الفرد على إدراك ما هو ضروري لرفاهيته النفسية، ليشكل خطوة علاجية مهمة تجنبه من أن يكون “تابعاً”.

تمتلك قناعة الشخص، الحق في الحصول على الاحترام، باعتبارها تمد هويته بفرادتها الخاصة وتعكس مدى وعيه. وعندما تفقد عقلانيتها، تتحول إلى تهديد موجه نحو الذات والآخر.

السابق
6 مطالب للثنائي «تُنقذ» التصويت لرئاسة عون في الدورة الثانية
التالي
من هو شبلي ملاط.. رجل المعارك الكبرى الحاصل على صوتين في انتخاب الرئيس