إستعادة في ذكرى رحيله الـ 24.. الإمام شمس الدين: لا ولاية عامة للفقيه في عصر الغيبة

الشيخ محمد مهدي شمس الدين

في 10 كانون الثاني من العام 2001 توفي العلامة المجدد الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الذي تولى رئاسة المجلس الإسلامي الشيعي وإداراته منذ إخفاء الإمام السيد موسى الصدر في صيف 1978 إلى حين وفاته ولعل الإمام شمس الدين هو من أبرز العلماء الشيعة المجددين في القرن العشرين، فعلى رغم المسؤوليات العامة التي تولاها على مستوى رئاسة المجلس الشيعي، فإن ما قدمه على مستوى الإنتاج الفكري والفقهي المتميز جعل منه شخصية قادرة على اختراق الزمن لما قدمه من مساهمات لا غنى من استحضارها واسترجاعها اليوم وعلى مدى عقود من الزمن الآتي من دون أن نقلل من شأن الأطروحات الفكرية السياسية لا سيما في شأن الكيانية اللبنانية كما في وصاياه التي شدد بها على اندماج الشيعة في أوطانهم، وأطروحته حول المتحد القومي الإسلامي إلى جانب إطروحته حول “ضرورة الأنظمة وخيارات الأمة” مع مرور 24 سنة على رحيله نستل مقطعاً من كتابه “ولاية الأمة على نفسها مقابل نظام ولاية الفقيه العامة” الصادر في كانون الثاني 2019 في تفنيد الولاية العامة للفقيه.

تساؤلات تمهيدية، في الأطروحة السياسية – الاجتماعية للإسلام؛ هل للأمة الإسلامية، أفراداً أو جماعات، موقع في عملية البناء والتغيير والكفاح والجهاد، أو أنه ليس لها موقع ولا دور، وإنما هي أداة في يد السلطة الحاكمة ممثلة بالنبي(ص) في حياته، وبالإمام المعصوم(ع) بعد وفاة النبي، وفي يد الفقيه في عصر الغيبة؟

هل معنى القيادة في الإسلام هو تركيز السلطات كلها في يد واحدة هي يد النبي والإمام الفقيه على التعاقب وليس للأمة إلا دور سلبي؟

وهل معنى القيادة في الإسلام هو تركيز السلطات كلها في يد واحدة، هي يد النبي والإمام الفقيه، على التعاقب، وليس للأمة إلا دور سلبي، هو دور الاستجابة والتلقي والانقياد؟ أو أن مفهوم القيادة في الإسلام مفهوم مركب من القائد والأمة، بحيث يتفاعلان ويتكاملان فيما يواجه الأمة من تحديات وأخطاء، وفيما تسعى إليه من الترقي والتكامل؟
ونحن نعلم من مجموع الكتاب والسُنة أن قضية العدل في الحكم هي القضية الكبرى في التصور السياسي والإسلامي وفي الفكر الاجتماعي الإسلامي، وأن مكافحة الظلم السياسي والاجتماعي هي أحد أعظم أهداف الحرب والمقاومة في الإسلام.
ونحن نعلم أن ضمانة ألا تقع السلطة المطلقة في يد النبي والإمام في الظلم والعدوان والطغيان ضد الأمة، وضمانة ألا تدفع الأمة إلى ارتكاب أخطاء مهلكة، هي العصمة من الذنب والخطأ التي يتحلى بها النبي(ص) والإمام(ع). أما في غير الإمام والنبي فلا توجد عصمة عند الفقيه تحول بينه وبين الظلم والطغيان إلا ملكة العدالة. وأما كونه عالماً فقيهاً فليس ضمانة تحول بينه وبين الطغيان والظلم، والعدالة – مهما بلغت – ليست عصمة في مستواها العاصم، وليس ثابتة – كما العصمة في المعصوم – غير قابلة للزوال. إذ إن العادل يمكن أن يفسق ويستمر في الفسق، ويمكن أن يفسق ويتوب.
والعصمة في النبي والإمام هي الضمانة ضد وقوع الأخطاء المهلكة للأمة. وما يقابلها في الفقيه هو الخبرة بأحوال الناس والزمان. ولكن مهما بلغت هذه الخبرة فهي خبرة محدودة لشخص غير معصوم. ما هي الضمانة للأمة إذاً – ألا تُقاد إلى سياسات مهلكة نتيجة لخطأ الفقيه؟

العصمة في النبي والإمام هي الضمانة ضد وقوع الأخطاء المهلكة للأمة

الظاهر من تتبع الأدلة في الكتاب والسُنة وسيرة النبي(ص) وأئمة أهل البيت(ع) هو أن للأمة دوراً كبيراً وأساسياً في مسألة الحكم وفي سياسة المجتمع، بل إن الفقيه يقطع من هذه الأدلة بأن للأمة دوراً في التقرير ناشئاً من ولايتها على نفسها حتى في زمان النبي والأئمة المعصومين، وشخصية الأمة الإيجابية الفاعلة تظهر واضحة في نصوص القرآن الكريم التي يحمل الله تعالى فيها المسؤولية للأمة في عملية البناء الاجتماعي والسياسي للمجتمع الإسلامي.

1 – في عصر النبي(ص)
لا شك في أنه ليس للأمة أي دور بالنسبة إلى التشريع الإلهي المولوي الذي يتضمن أوامر الله تعالى ونواهيه، وإنما ينحصر دور الأمر أفراداً وجماعات ومجتمعات في الامتثال والطاعة.
وأما مع النبي خارج مجال التشريع والأوامر والنواهي الإلهي فالظاهر أن الأمر ليس كذلك، بل الثابت أن للأمة دوراً مع النبي في الولاية، وبعض جوانب هذا الدور ثابت بأصل الشرع، وبعضه ثابت بالأوامر والنواهي الولائية الصادرة عن النبي. فقد أنشأ الشارع المقدس أنواعاً من الولايات للأمة على نفسها فمارستها في عهد النبي والإمام المعصوم لتحقيق أغراض مهمة عند الشارع في حقل المجتمع والحياة العامة للأمة الإسلامية.

إقرأ أيضاً: جوزاف عون رئيساً بـ99 صوتاً بـ«بركة» الثنائي واميركا والسعودية..واسرائيل تواصل تدمير الجنوب!

ويمكن للفقيه ملاحظة ثلاثة أدوار كبيرة للأمة في هذا الشأن ثبتت لها بأصل التشريع تمارس فيها ولايتها على نفسها مع النبي وتحت سلطته وقيادته، وتشارك في تسيير المجتمع الإسلامي نحو أهدافه التي حددها الله تعالى في الكتاب الكريم وعبر عنها النبي(ص) في سُنته:
الدور الأول: الشورى. ومن المعلوم أن هذا المبدأ قد شرع في القرآن الكريم في العهد المكي في بداية تشكيل الجماعة الإسلامية، وتحديد الأسس المبدئية والخطوط العامة التي يقوم عليها، في المسألة الاعتقادية، والاجتماعية، والاقتصادية، وغير ذلك. هذا مع الإشعار بما سيؤول إليه هذه الجماعة من قدرة على صد البغي وتحقيق الانتصار.
ومن الأسس المبدئية والخطوط العامة في التكوين السياسي – الاجتماعي للجماعة الإسلامية مبدأ الشورى الذي عبر عنه الله تعالى في الآيات التالية: “فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون، والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم يُنفقون، والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون (42 الشورى، مكية، 36 – 39).
كما شرع في العهد المدني بعد تكوين المجتمع السياسي الإسلامي والدولة الإسلامية، وتحددت القيادة العليا في شخص النبي واستقر المجتمع على التسليم والرضا بهذا الواقع.


وقد شرع الله تعالى هذا المبدأ في قوله عز وجل مخاطباً النبي(ص): فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (آل عمران، مدنية، 159).
ومن المعلوم أن مجال الشورى – المأمور به فيما بين المؤمنين أنفسهم في العهد المكي ولم ينسخ قطعاً، والمأمور به النبي مع المؤمنين في العهد المدني ولم ينسخ قطعاً، هو مجال يشمل جميع شؤون الحياة العامة في المجتمع والدولة، على ما يظهر من “أمرهم” في الآية المكية، و”الأمر” في الآية المدنية. فكانت الأمة – من خلال من يختارهم النبي – تدعى للمشاركة في الرأي واختيار الحلول للمشكلات الطارئة في القضايا السياسية والعسكرية وغيرها. ومن تطبيقات النبي لمبدأ الشورى جعل اختيار النقباء من أهل يثرب في بيعة العقبة الثانية من مسؤوليات أهل يثرب حيث قال لهم بعد اكتمال المفاوضة “اختاروا نقباءكم” وهذا كان بعد نزول آية الشورى المكية.
ولا يخفى أن هذا التشريع يعطي للأمة دورها الكامل في الولاية على نفسها تحت سلطة النبي في حياته، وتحت سلطة الإمام بعد النبي، وبصورة ثالثة – من الناحية التنظيمية في عصر الغيبة – كما سنبين ذلك.
وقد كانت مسألة الشورى موضع درس واسع عميق من كثير من الفقهاء ودارسي الفقه الإسلامي من علماء الدين والباحثين، وتكون منها موقفان: موقف الدارسين الشيعة، وهو موقف لا يعتبر الشورى صيغة للحكم في الإسلام، وموقف الدارسين من المذاهب الإسلامية الأخرى، ومعظمهم أو جميعهم يعتبرون صيغة الشورى صيغة الحكم في الإسلام.
والخطأ الذي وقع فيه الفقهاء والدارسون الشيعة هو أنهم درسوا مسألة الشورى بمعزل عن مبدأ ولاية الأمة على نفسها، فعزلوها بذلك عن إطارها الفقهي الخاص، فكانت مورداً للإشكالات. ولو عرضوا لها ودرسوها ضمن هذا الإطار الفقهي لمسألة الحكم في الإسلام، وهو ولاية الأمة على نفسها، لظهر أنها سليمة من الإشكالات التي أوردوها على هذا المبدأ.

ليس للأمة أي دور بالنسبة إلى التشريع الإلهي المولوي الذي يتضمن أوامر الله تعالى ونواهيه وإنما ينحصر دور الأمر أفراداً وجماعات ومجتمعات في الامتثال والطاعة

الدور الثاني: واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا الدور ثابت للأمة في أصل التشريع، بالنص القرآني، وبالسُنة الشريفة.
في القرآن الكريم قوله تعالى: ولكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (3 آل عمران، مدنية، 104).
وقوله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله (3 آل عمران، مدنية، 110).
وقوله تعالى: ليسوا سواء من أهل الكتاب امة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين (3 آل عمران، مدنية، 113 – 114).
وقوله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم (9 التوبة، مدنية، 71).
وقوله تعلى: …ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور (22 الحج، مدنية، 40 – 41).
ومجال عمل الأمة في هذا الدور هو الناس، أفراداً وجماعات، في جميع وجوه النشاط التي يزاولونها، في ما يتعلق بالالتزام الأمين لأوامر الشريعة الإسلامية ونواهيها، في حقل العبادات، وحقل الأسرة، وحقل علاقات الجنسين، وحقل التزام موظفي الدولة بواجباتهم، وعلى الأحوال، كل حرام يُرتكب فالأمة ولية فيه بردع فاعله، وكل واجب يُترك، فالأمة ولية فيه لردع تاركه.
ولا شك أن هذا التكليف هو من أظهر مصاديق ولاية الأمة على نفسها. ولم يذكر أحد أن للفقيه ولاية على هذا الأمر في عصر الغيبة، بحيث تتوقف ممارسة الأمر والنهي على إجازته وإذنه، إلا في موارد خاصة وقع الخلاف فيها. (تبحث قضية الأمر والنهي إذا لزم فيها جرح وقتل) ولعل المنشأ هو ضرورة أن يعرف الآمر والناهي الحكم الشرعي المحدد في القضية التي تواجهه ويريد معالجتها. ولا شك أن المرجع في معرفة الحكم هو الفقيه، وليس من جهة أن للفقيه ولاية في هذا الأمر.
إن الأمة في هذا الدور تمارس ولاية حقيقية على نفسها من منطلق كونها قيمة على سلامة النظام الاجتماعي، وصيانة النمط الحضاري. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمثل الولاية من حيث كونها قيمومة كاملة للأمة على نفسها تمارسها من خلال عملية تفاعل داخلية واسعة النطاق على مساحة الأمة كلها، ومساحة أنشطة الأمة كلها.
الدور الثالث: هو ما اصطلح الفقهاء على تسميته بالواجبات الكفائية، ومجال عمل الأمة وولايتها على نفسها في هذا الدور تشكل جميع المهمات والإجراءات والقضايا التي تتعلق بانتظام سير الحياة العامة للجماعات وللمجتمع ككل، وكل ما يكفل سلامة الحياة من الآفات المادية والخلل.

الأمة تمارس ولاية حقيقية على نفسها من منطلق كونها قيمة على سلامة النظام الاجتماعي وصيانة النمط الحضاري

وهذا المجال يشمل كل ما يمكن فرضه مما له صلة بحياة المجتمع المادية، وكل ما يحتاجه المجتمع من مؤسسات وخبرات وحرف، بحيث يمكن أن يقال بأن النظام السياسي – الاجتماعي في الإسلام، في عهد النبي(ص)، هو نظام جماهيري تشترك فيه الأمة كلها في إدارة شؤون المجتمع والدولة.
وهذا الدور ثابت للأمة في أصل التشريع، ولم يثبت بأي دليل على أن للفقيه ولاية في هذا الحقل في عصر الغيبة.

السابق
جوزاف عون رئيساً بـ99 صوتاً بـ«بركة» الثنائي واميركا والسعودية..واسرائيل تواصل تدمير الجنوب!
التالي
بعدسة «جنوبية».. عون في خطاب القسم: حصر السلاح بالدولة وإعادة الإعمار