بيروت- دمشق: متى تُقرع الاجراس؟

عندما أعلن حزب البعث فور وصوله الى السلطة في سوريا في ستينات القرن الماضي، “الثورة على الحدود” بين الأقطار العربية، إفتتح عهده بإقفال الحدود مع لبنان.

لم يكن الحزب يومها يلتزم بأهم شعاراته، أي تحقيق الوحدة العربية التي عجزت عنها الثورة الناصرية، بقدر ما كان يؤكد أن الشقيق اللبناني الذي يخوض غمار تجربة ليبرالية سياسية واقتصادية “متفلتة”، استقطبت البرجوازية السورية، وعناصر الثورة المضادة على الحكم البعثي، هو أبرز تحدٍ يواجه أي حاكم لدمشق، يقرأ التاريخ المدرسي، ويرفض التسليم بالانسلاخ، أو بالاحرى الاستقلال اللبناني عن بلاد الشام.

تحت شعار “الحفاظ على وحدة لبنان وعروبته وتطوره الديموقراطي”، فظّع الحكم الاسدي بالكيان اللبناني، ولم يرحم أحداً من اللبنانيين، سوى الراكعين له

وطوال العقود الستة الماضية، ترجم النظام الاسدي ذلك التحدي البعثي الى خريطة طريق إستراتيجية ونهج سياسي ثابت، ركز على تحويل لبنان من منصة سياسية لتهديد سوريا، الى محمية أمنية للدفاع عن أمنها واستقرارها الداخلي، حتى ولو اقتضى الامر تفجير الداخل اللبناني بالحروب الاهلية، المبنية أولا على تهجير المقاومة الفلسطينية من جبهة الجولان، التي كانت خيار القيادة الفلسطينية الأول بعد الأردن، الى جبهة جنوب لبنان، التي كانت ملاذها الأخير.. ثم العمل في مرحلة تالية الى التلاعب بالتوازن اللبناني الطائفي الهش، مع ما رافق ذلك من معارك أهلية كانت تدار من دمشق أكثر من عاصمة عربية أو أجنبية أخرى، ومن تصفيات لقوى سياسية لبنانية واغتيالات متلاحقة لشخصيات لبنانية مناهضة للهيمنة السورية.

وطوال العقود الستة الماضية، ترجم النظام الاسدي ذلك التحدي البعثي الى خريطة طريق إستراتيجية ونهج سياسي ثابت، ركز على تحويل لبنان من منصة سياسية لتهديد سوريا، الى محمية أمنية للدفاع عن أمنها

وتحت شعار “الحفاظ على وحدة لبنان وعروبته وتطوره الديموقراطي”، فظّع الحكم الاسدي بالكيان اللبناني، ولم يرحم أحداً من اللبنانيين، سوى الراكعين له. كان اتفاق الطائف الشهير، مجرد هدنة مؤقتة أجبرت الأسد الأب والإبن، على الاعتراف بشرعية الدولة اللبنانية..الذي سرعان ما سحبه بواسطة الموجة الجارفة من الاغتيالات في بيروت، في مطلع القرن الحالي، قبل ان يخرج من لبنان ويغرق في مواجهة أكبر ثورة شعبية سورية، بمرافقة آخر حلفائه اللبنانيين، “حزب الله” الذي ظل يقاتل معه حتى الرمق الأخير، بعدما ساهم قتاله في تأجيج الصراع التاريخي بين البلدين والشعبين الذي لم تتمكن المعارضات السورية على اختلاف تلاوينها وتشكيلاتها من مقاربته يوماً بشكل مختلف عن المقاربة الاسدية، إما لأن تحديات الثورة السورية كانت أكبر من أن تفسح المجال لنقاش هادئ حول العلاقات اللبنانية السورية، وإما ببساطة لأن تلك المعارضات المتنوعة كانت ولا تزال تحمل، بطريقة أو بأخرى، الإرث الاسدي في التعامل مع لبنان.. وتلقي خطيئة “حزب الله” على اللبنانيين جميعاً.

كان اتفاق الطائف الشهير، مجرد هدنة مؤقتة أجبرت الأسد الأب والإبن، على الاعتراف بشرعية الدولة اللبنانية الذي سرعان ما سحبه بواسطة الموجة الجارفة من الاغتيالات في بيروت

عندما كانت الثورة السورية توشك على الإطاحة ببشار في العام 2014، وفي لقاء خاص في عاصمة السلطنة، إسطنبول، رد المراقب العام الاسبق لحركة “الاخوان المسلمين” في سوريا محمد رياض الشقفة على سؤالي المباشر عما تفكر به المعارضة السورية تجاه لبنان، بإبتسامة صادقة، قبل ان يمضي بالقول: “ربما نحقق ما عجز البعث عن تحقيقه”.

 كانت الإجابة تقصد فعلا السخرية ب”البعث”، الذي طمح للوحدة بين البلدين. مثلما كانت تنم عن أنه ليس هناك ملف لبناني خاص على جدول أعمال المعارضين السوريين. وهو ما أثبتته الأيام، وظل لبنان حبيس الذاكرة السورية، التي أقفلها نظام الأسد على واحدة من أسوأ تجارب الانفصال بين “شعب واحد في دولتين”.

لا تبدو الصورة واعدة، عندما يقفل الحكم الجديد في دمشق معابر الحدود أمام اللبنانيين الى سوريا للمشاركة بفرحة الخلاص من الاسدية

الانقلاب الإسلامي الذي أطاح بالاسدية وكنس معالمها التي ظلت جاثمة على صدور السوريين لستة عقود، لم يقدم أي دليل حتى الآن على أنه سيحرر الشعب السوري، واللبناني طبعا، من تلك الذاكرة، بل أرسل إشارات معاكسة الى حد بعيد.

كانت الكلمة الابرز للحاكم الجديد لدمشق، أحمد الشرع: “لن نتدخل في الشأن اللبناني”.. تختزل الماضي الاسدي بقدر ما تنفيه. مع أن الحدود تشهد على التدخل العقابي الموروث.

إقرأ أيضا: صفا «يتحدى» الدولة وإجراءاتها في المطار..و«الثنائي» يَقطع طريق جعجع «الرئاسي» بقائد الجيش!

ولم تتبعها على سبيل المثال، كلمات شكر على الأقل الى الجمهور اللبناني العريض الذي قارع الاسدية لستة عقود مضت، وشارك ضمناً في زوالها، أو كلمات أخوة ومودة خاصة، بين الشعبين والبلدين والنظامين اللذين لن تفرقهما الأيام.. مهما اختلفت الخيارات السياسية والاقتصادية التي لن تكون أقوى من القرابات الاجتماعية العميقة.

كانت الكلمة الابرز للحاكم الجديد لدمشق، أحمد الشرع: “لن نتدخل في الشأن اللبناني”.. تختزل الماضي الاسدي بقدر ما تنفيه. مع أن الحدود تشهد على التدخل العقابي الموروث

لا تبدو الصورة واعدة، عندما يقفل الحكم الجديد في دمشق معابر الحدود أمام اللبنانيين الى سوريا للمشاركة بفرحة الخلاص من الاسدية، وعندما يغيب عن جدول أعمال الحكام السوريين، إرسال موفد رسمي منهم الى بيروت، لفتح الباب الأقرب الى العاصمة السورية، على التقارب والتعاون والتفاعل، في الوقت الذي يجول فيه الموفدون السوريون بقية عواصم العرب..التي لن تعوضهم عن العاصمة اللبنانية، مهما طال الزمن.

السابق
الهلع على منابر النظام.. تداعيات انهيار الأسد تتفاعل داخل إيران
التالي
130 ألف عنصر دربهم سليماني.. المقاومة جاهزة للتحرك في سوريا!