كان سقوط نظام بشار الأسد حدثاً صادماً ومزعجاً لأقلية مؤثرة في العراق، تشمل الفصائل المسلحة العراقية التي دافعت عسكرياً عن نظام الأسد ضمن “محور المقاومة” وساسةً متحالفين مع طهران وآخرين لديهم علاقات وثيقة مع دمشق مثل رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي.
تناقش هذه الورقة مستقبل الفصائل المسلحة العراقية في ضوء إطاحة نظام الأسد، وتصاعد المطالبات العراقية بحلِّها خصوصاً في ظل ضغوط أمريكية، تبدو مؤكدةً، مع وصول الرئيس المنتخب دونالد ترمب للبيت الأبيض، وتراجُع قوة إيران في المنطقة بعد الاستهداف الإسرائيلي لها ولأذرعها في الإقليم.
رحيل الأسد والتكيُّف الصعب
منذ الساعات الأولى لسقوط نظام الأسد، عجّت القنوات الإعلامية للجماعات الولائية العراقية، وهي التسمية التي تُطلق في العراق على الفصائل المسلحة والقوى السياسية الموالية لإيران، بالمواقف المشككة والغاضبة من إطاحة “هيئة تحرير الشام” نظام الأسد والعواقب الكارثية المفترضة لهذه الإطاحة. وبدأت هذه القنوات تُسوِّق سردية تجمع بين أمرين متلازمين: الأول هو التأكيد على الطبيعة “الإجرامية الإرهابية” لـ”هيئة تحرير الشام” وزعيمها أبو محمد الجولاني؛ والثاني هو أن التغير الحاصل في سورية وتولي “الهيئة” الحكمَ هناك سيفتح باب الصراع على أساس هوياتي، ما يهدد العراق بالخطر من انتقال عدوى الإرهاب السورية إليه.
اقرأ أيضاً: لبنان على حافة الانخراط في عملية النهوض..أو تضييع الفرصة الكبرى!
في ظل التحوُّل المفاجئ والكبير الذي عناه سقوط نظام الأسد، تحاول الفصائل المسلحة العراقية أن تعيد موضعة نفسها للحفاظ على وجودها ومواصلة دور لها محلي وآخر إقليمي عابر للحدود، ليس بالضرورة في إطار “محور المقاومة” الذي يشهد تفككاً ملحوظاً، وإنما في إطار إعادة تعريف مفهوم الأمن القومي العراقي. تستند إعادة التعريف هذه إلى استئناف دورها السابق في سورية بتخريجة مختلفة في ظل تبدُّل الأدوار والظروف التي برزت بسقوط الأسد، ففي عهد الأسد كانت الحجة الأساسية لقتال الفصائل المسلحة العراقية إلى جانب القوات الحكومية السورية هو لمنع سيطرة المجموعات الإرهابية على سورية، وبالتالي وقف تهديدها المؤكد للعراق في حال توليها مقاليد الحكم في دمشق. وبعد سقوط الأسد، وتولي هذه المجموعات، ممثلةً بـ”هيئة تحرير الشام”، مقاليد الحكم في دمشق فعلاً، فسيكون -وفق هذه السردية- نقلها الإرهاب إلى العراق وتقويضها الحكم فيه هو هدفها المقبل، بحسب بيان لحركة النجباء عن التطورات السورية، الفصيل العراقي المسلح والأكثر ولاءً لإيران، كما كان للفصيل المسلح العراقي الآخر، كتائب حزب الله، الذي لا يقل تشدداً وولاءً لطهران، موقف شبيه لما يحصل في سورية.
الفصائل المسلحة وترتيبات المستقبل
لا يبدو موقف الفصائل هذا منفصلاً عن مجموعة أفعال قامت بها هذه الفصائل بعد إطاحة الأسد لتقويض الترتيبات السياسية المقبلة في سورية ومنع نظام الحكم من الاستقرار، مثل تهريب أسلحة إلى سورية، ما دعا واشنطن مؤخراً الطلب من الحكومة العراقية وقف هذا التهريب. وفي ضوء الأنباء المتداولة حول اختباء ماهر الأسد، شقيق بشار الأسد، في شمال العراق، فإن التصور السائد فصائلياً هو الاستعداد للحظة مقبلة تتعلق بجهد منهجي لتقويض نظام الحكم المقبل في سورية.
وبرغم أن المضي بهذا الاتجاه، على نحو واسع ومنهجي، يحتاج قراراً إيرانياً رفيع المستوى لا يزال غير متخذ لحد الآن، فإن مضمون حديث المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، بعد أربعة أيام من إطاحة الأسد يحمل إشارة واضحة إلى أن إيران لن تترك سورية، وذلك بقوله “لن تتمكّن أمريكا من تثبيت موطئ قدم في سورية، وسيتم طردها من المنطقة على يد جبهة المقاومة.” وبعدها بأيام، تحدث خامنئي في تسجيل فيديوي على نحوٍ أكثر صراحة ومباشرةً قائلاً “أتوقع ظهور فئة شريفة قوية في سورية، ليس لدى الشاب السوري ما يخسره. جامعته غير آمنة، مدرسته غير آمنة، بيته غير آمن، شارعه غير آمن، حياته غير آمنة، ماذا عليه أن يفعل؟ وعلينا أن نقف بكل قوة وإصرار ضد من خطط لهذا الانفلات الأمني ومن نفذه، وسيهزمون بإذن الله، وغداً ستكون المنطقة أفضل من اليوم بفضل الله”. ثم جاء تصريح وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، الذي قال فيه: “مَن يعتقدون بتحقيق انتصارات في سورية، عليهم التمهل في الحكم، فالتطورات المستقبلية كثيرة”، وهو التصريح الذي فهمه وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني على أنه تهديد لسورية الجديدة، فرد عليه قائلاً إنه “يجب على إيران احترام إرادة الشعب السوري وسيادة البلاد وسلامتها، ونحذرهم من بث الفوضى في سورية”.
من الواضح أن إيران تشعر أن معركتها في سورية لم تنته، وأنها تسعى لاستعادة بعض نفوذها هناك أو تقليل خسائرها بأقصى ما يمكن. وعلى الأكثر، ستلعب الفصائل العراقية دوراً محورياً في أي سيناريو إيراني بهذا الصدد.
التحديات الداخلية العراقية للفصائل
على الجانب الآخر، تُواجِه الفصائل العراقية حزمة تحديات، معظمها جديدة بعد إطاحة نظام الأسد. أول هذه التحديات هو خطاب التطمين العلني نحو العراق الذي اتبعه مبكراً زعيم هيئة تحرير الشام أحمد الشرع ، حتى قبل سقوط نظام الأسد. وبعد هروب الأسد وتولي الهيئة مقاليد الأمور في دمشق، توالت رسائل الطمأنة من الشرع باتجاه الجميع وليس العراق فقط، بخصوص رغبته في تطبيع الأوضاع في سورية والانتقال بها إلى دولة عادية ومستقرة، وليس منطلقاً لأي مشاريع جهادية أو مسلحة عابرة للحدود أو تمثل تهديداً للمنطقة.
لم يصب خطاب التطمين الإقليمي هذا في صالح الفصائل العراقية التي كانت تتمنى خطاباً جهادياً استفزازياً من الشرع يمكنها استخدامه للتحشيد ضد سورية “الجديدة”، ويبرر استمرار فعالياتها المسلحة ووجودها الأمني، كما ظهر في ردودها المشككة بتطمينات الشرع متهمةً إياه بالإرهاب الطائفي والضلوع في مخطط صهيوني أوسع، ومؤكدةً استعدادها للتصدي للتحديات الأمنية المقبلة. ومع الخطوات التالية التي اتخذتها “هيئة تحرير الشام” بخصوص تجنب الأفعال الانتقامية، وطمأنة الأقليات على مستقبلها، وتأكيدها على انتقال سلمي سوري إلى السلطة بمشاركة الجماعات السورية المختلفة، فقدت دعوات التأهب والتحريض الأولى التي أطلقتها الفصائل الكثيرَ من زخمها الشعبي، خصوصاً بين الجمهور الشيعي الذي تعتمد عليه هذه الفصائل كثيراً للحصول على شرعية شعبية ضرورية خصوصاً في الفترة التي تلت سقوط الأسد.
ويتمثل التحدي الآخر الذي تواجهه الفصائل المسلحة بالعاملين الإقليمي والدولي اللذين ينتظمان بسرعة لافتة للاستثمار في التحول الحاصل في سورية. وظهر هذا عبر استعداد الدول الغربية، خصوصاً الولايات المتحدة والدول الأوروبية، والدول العربية، للتعامل بإيجابية يشوبها الحذر مع الوضع الجديد هناك، بضمنها الاستعداد لرفع “هيئة تحرير الشام” من التصنيف الإرهابي، في ضوء خطاب الطمأنة والخطوات الأولى المشجعة التي اتخذتها الهيئة بعد إطاحة الأسد.
وفي ظل هذا الاستثمار في “سورية الجديدة”، وترسيخه المضطرد لضمان تشكيل سلطة تمثيلية ومستقرة على أساس عملية سياسية انتقالية تنتهي بدستور ديمقراطي، يصعب كثيراً على الفصائل المسلحة العراقية أن تلعب دوراً “تخريبياً” لتقويض هذه العملية، لأنها حينها ستكون بمواجهة العالم، والولايات المتحدة الأمريكية تحديداً. وأيضاً، سيضعها هذا الدور بمواجهة الحكومة العراقية التي أعلنت رسمياً اندراجها في الجهدين الدولي والإقليمي لتحقيق الاستقرار في سورية، ومن ذلك تأكيدها في البيان الذي أصدرته على “أهمية عدم التدخل في الشأن الداخلي السوري، أو دعم جهة لصالح أخرى”، والذي أتبعته بإرسال وفد أمني يترأسه رئيس جهاز المخابرات العراقي حميد الشطري إلى دمشق في 26 ديسمبر للقاء أحمد الشرع والتحاور معه بشأن الملفات التي تهم العراق وأهمها حماية الحدود ومحاربة “داعش”، وهي الزيارة التي تؤكد رغبة بغداد في التعاون مع الإدارة الجديدة في سورية.
لكن يبقى التحدي الأهم أمام الفصائل المسلحة هو التحدي الداخلي العراقي الذي يزداد تعقيداً إلى حد تهديده أصل وجودها. فمثلاً، على إثر لقائه بممثل الأمم المتحدة في العراق، محمد الحسان، في مطلع نوفمبر الفائت، أصدر زعيم المرجعية الدينية في النجف علي السيستاني، بياناً دعا فيه إلى حصر السلاح بيد الدولة، بلغة واضحة ومباشرة لم يسبق للسيستاني استخدامها. كانت هذه الصراحة مثيرة للانتباه فعلاً، إذ اعتادت الفصائل إعادة تفسير كلمات السيستاني في بياناته السابقة، لكنها عجزت هذه المرة عن الالتفاف على اللغة الصريحة والمباشرة ما تسبَّب الأمر بحرج حقيقي لها، في وقت أعلنت الحكومة و”الإطار التنسيقي،” الكتلة البرلمانية الحاكمة، تبني البيان ودعت إلى تطبيقه، وهو ما فعلته أيضاً جهات سياسية وبرلمانية أخرى.
قلق الفصائل من إدارة ترمب
لا يخفى القلق السياسي العراقي من إدارة دونالد ترمب المقبلة، المعروفة بعدائها لإيران ونظرتها للعراق عبر زاوية العداء هذا، كما ظهر واضحاً في ولاية ترامب الأولى (2017-2020). تنظر هذه الإدارة إلى العراق باعتباره جزءاً من نفوذ إيران الإقليمي، وأنه ينبغي التعامل معه بشدة لإخراجه من دائرة هذا النفوذ. لذلك من المتوقع أن يلجأ فريق السياسة الخارجية في هذه الإدارة، المعروف أيضاً بشدة عدائه لإيران وارتيابه بحكم الأحزاب الإسلامية الشيعية في العراق، إلى سلسلة إجراءات عقابية وضاغطة ضد مَن يعتبره ركائز للنفوذ الايراني في العراق، كالفصائل المسلحة والحشد الشعبي ومؤسسات عراقية أخرى كالبنك المركزي ومجلس القضاء الأعلى وشركة تسويق النفط (سومو). وليس واضحاً كيف سيكون نسق العقوبات هذا؛ هل سيكون تدريجياً وتصاعدياً أم شاملاً ومُركزاً؟ لكن أياً يكن السيناريو الأمريكي المقبل، فستكون الفصائل المسلحة هدفاً لأي عقوبات أمريكية، خصوصاً في ظل تسريبات بخصوص تهديدات أمريكية مباشرة للحكومة العراقية بهذا الصدد.
ويرتبط بهذا التحدي الأمريكي تحدٍّ آخر يتعلق بضربات إسرائيلية محتملة ضد الفصائل بسبب اشتراك الأخيرة في هجمات صاروخية ضد إسرائيل، في سياق جهد الدعم الذي قدمه “محور المقاومة” لتنظيم حماس بعد شن عملية “طوفان الأقصى”. وبحسب مصادر مختلفة ساهم تدخل إدارة الرئيس بايدن في تأجيل شن إسرائيل هذه الضربات. وبعكس إدارة بايدن المتفهمة عموماً لتعقيد الوضع الداخلي العراقي الذي يسمح لإيران بنفوذ قوي ضمن الدولة العراقية، فلن يكون، على الأغلب، لإدارة ترمب المقبلة مثل هذا التفهم، ففريق السياسة الخارجية الذي عيَّنه ترمب معروف بعدائه لإيران واستعداده لاتخاذ خطوات جريئة ضد الطبقة السياسية العراقية الحاكمة التي يتهمها بتسهيل الهيمنة الايرانية على العراق، حليف أمريكا المفترض. ويعني هذا أن هذا الفريق سيطلق يد إسرائيل في الضرب داخل العراق، لتصفية النفوذ الإيراني فيه.
السيناريوهات المحتملة لمستقبل الفصائل العراقية المسلحة
- تفكيك الفصائل المسلحة بمزيج من أفعال حكومية ودعم مرجعي من النجف، أو بضغط شديد من واشنطن في عهد إدارة ترمب المقبلة. ففي ظل الضعف الشديد لـ”محور المقاومة” وراعيته إيران، والقلق السياسي العراقي المتصاعد من استهداف أمريكي للعراق عبر حزمة عقوبات اقتصادية وإجراءات عقابية، فإن هذا السيناريو محتمل. والعامل الحاسم بخصوص تحقُّق هذا السيناريو يرتبط بسياسة إدارة ترمب نحو العراق، التي على الأغلب لن تكون تعاونية مع الحكومة العراقية كما هي حال إدارة بايدن الحالية، بل ستتجه أكثر إلى الضغط على الحكومة العراقية.
- أن تنحني الفصائل المسلحة، ومن ورائها إيران، أمام العاصفة الحالية (كما ظهر في إعلان الفصائل مؤخراً توقفها عن استهداف اسرائيل) من أجل المحافظة على بقائها، وذلك بإعلان التوقف التام عن استهداف القوات الأمريكية أو المشاركة في مغامرات خارج الحدود، وبخاصة عدم لعب دور في تقويض الحكم المقبل في سورية بالتناغم مع الرغبات الإيرانية المعلنة. هذا السيناريو متوسط الاحتمال، ويمكن أن يزداد احتمال حصوله إذا لم تتخذ إدارة ترمب موقفاً واضحاً وقوياً بحلّ الفصائل. وبشكل عام تستطيع الفصائل المسلحة مقاومة جهود الحكومة أو الطبقة السياسية على حلها، لكنها لن تستطيع ذلك في ظل طلب صريح من السيستاني بحلها أو ضغط أمريكي بهذا الاتجاه أيضاً.
- التوجه نحو إعادة هيكلة الحشد الشعبي بعد دمج الفصائل فيه على أساس الأمر الديواني 331 لعام 2019 الذي أصدره مجلس الوزراء في عهد حكومة عادل عبد المهدي ولم يُطبق حينها بعد اندلاع “احتجاجات تشرين” في العام نفسه. وفي حال تطبيقه على نحو جدي، يُزيل هذا الأمر الديواني عن الحشد الصفات الفصائلية والسياسية ويُضفي عليه الصفة المهنية ضمن المؤسسة العسكرية العراقية. واحتمال حدوث هذا السيناريو مرتفع نسبياً، وقد تضطر له الفصائل والطبقة السياسية كخيار أخير، ويمكن أيضاً أن ترضى إيران به كأفضل تسوية متيسرة لها حالياً، كما يمكن أن تقبل به الولايات المتحدة إذا نُفِّذ على نحوٍ جدي.
الاستنتاجات
تزداد قوة الحكومة العراقية بإزاء الفصائل المسلحة مدعومةً برغبة شعبية مناوئة للفصائل وبدعم المرجعية لحصر السلاح بيد الدولة، فضلاً عن العامل الجديد والمهم المتمثل بالتراجع الشديد للنفوذ الإيراني في المنطقة بعد هزيمة حزب الله على يد إسرائيل وسقوط نظام الأسد. شكّل الاثنان عمودين مهمين في محور المقاومة، ومؤثرين جداً في ديمومة العمود العراقي في المحور. وليس واضحاً كيف ستوظف الحكومة العراقية هذا العامل لتأكيدها سلطتها بحصر السلاح بيدها. وثمة أحاديث في الكواليس السياسية العراقية بخصوص تنسيق بين المرجعية الدينية وحكومة السوداني، يتضمن قيام الأخير بتفكيك الفصائل تتبعها مباشرةً فتوى أو بيان من المرجعية بدعم هذا التفكيك، أو بالعكس، أي أن تدعو المرجعية إلى التفكيك صراحةً (وليس عبر الفكرة العامة التي استخدمتها لسنوات حتى مؤخراً، بخصوص حصر السلاح بيد الدولة). وتبني المرجعية لهذا التفكيك سيسهم في تجاوز الموقف الإيراني الذي يمكن أن يعيق فعلاً أي قرار تتخذه الطبقة السياسية العراقية بتفكيك الفصائل. وأخيراً، سيلعب الضغط الأمريكي دوراً أساسياً في الدفع نحو تفكيك الفصائل، وهو الدور الذي ستكشف الأشهر المقبلة طبيعته لجهة التركيز والحجم.