تزخر الطفولة بالكثير من التجارب، التي تؤثر بشكل جذري على حياة الفرد، باعتبارها المرحلة الأكثر حساسية و قابلية للتأثر، بكل ما تمر به من أحداث. وهي تؤدي دورها في تشكيل الشخصية والمهارات الذهنية والاجتماعية. كما تتأثر بثقافة المجتمع، التي تحدد بدورها طبيعة إدراك الطفل لدوره. ومن هذا المنطلق، فإن ما يمر به من معاشات ينعكس على حياته النفسية، وقد يجعل منها سوية أم لا. فعلى سبيل المثال، يهدد ما يختبره من أزمات كالإهمال وسوء المعاملة وفقدان أحد الوالدين والمشاكل الأسرية.. نموه المعرفي و الاجتماعي والعاطفي، فيوقعه ضحية لاضطرابات قد تصاحب حياته الراشدة.
ويعدّ ما يختبره الطفل، الذي يولد ويكبر في السجون والمعتقلات، من الصدمات الأقوى حدّة والاضطرابات الأكثر خطورة، والتي تودي ليس فقط بالجانب النفسي من حياته وإنما بنواحيها كافة. وتجدر الإشارة إلى أنه في حال كان مجهول الأب، يتحول الأمر من سيئ إلى أسوأ، ويزداد الواقع تعقيداً. إذ يتعرض الكثير من المعتقَلات، وسيما السياسية، للإغتصاب من قبل السجّانين، وقد ينجبن أطفالاً في ظروف غير صحية وسيئة، بحيث يعجزن عن معرفة الوالد وتحديد هويته.
يعدّ ما يختبره الطفل، الذي يولد ويكبر في السجون والمعتقلات، من الصدمات الأقوى حدّة والاضطرابات الأكثر خطورة
يدفعنا هذا الواقع الأليم، إلى مقاربة آثاره من منظور سيكولوجي، ليصار إلى فهم مآله الكارثية على الصحة النفسية. مما يسهم في فهم السلوكيات المضطربة للطفل، و التعامل معها بما يتناسب مع إمكانية الحد منها، في سبيل المساعدة على إعادة دمجه في المجتمع، بعد أن ترعرع في معتقل أعاق تفاعله الاجتماعي واكتشافه الحرّ لمحيطه، واللذين يعدان شرطين أساسيين لنموه العاطفي المتوازن والسليم. ومن جهة أخرى، فإن الضغط النفسي الذي تعانيه المعتقَلة من جراء تعنيفها وترهيبها، ينتقل إلى طفلها. مما يولد لديه شعوراً حاداً بالقلق والخوف، قد يحمله معه في سنوات عمره اللاحقة.
يأتي سوء التغذية، ومعه الظروف الصحية السيئة وعدم الاستقرار النفسي.. لينال من سلامة الطفل الجسدية والذهنية على حدّ سواء
وبدوره يأتي انفصاله المفاجئ عن أمه السجينة، بسبب بلوغه سنّ معينة أو إصابته بمرض أو لأي سبب آخر، ليثقل حياته بالمعاناة. ويعتبر هذا الانقطاع القسري عن الأم، مرحلة انتقالية تعبر به إلى وضعية أكثر مأساوية، وخصوصاً مع انعدام لوجود الاب. وفي هذه الحال، ينمو لدى هذا الطفل الشعور بالترك، الذي يشكل نواة لاضطرابات نفسية خطيرة، كاضطراب الشخصية الحدية. وعلى هذا النحو، قد تتحول دور رعاية مجهولي الأب والأيتام، إلى أرضية خصبة لإنتاج، إن صح التعبير، أطفال مضطربين و أحداث منحرفين، في حال لم تتدارك خطورة الشعور بالترك وتعمل على معالجته.
لا تعد الأنظمة الاستبدادية “مقبرةً” للحرية التي تكشف وحشيتها فحسب، بل أيضاً تسعى إلى الانتقام من الطفولة، التي تسقط عليها ضعفها وهشاشتها
من المعروف والطبيعي أيضاً، أن ينعكس هذا المعاش الأليم، على الجانب المعرفي والذهني من حياة الطفل. ويعود السبب بالدرجة الأولى في ذلك، إلى حرمانه من اللعب الذي يؤدي دوره المهم في نمو قدراته المعرفية، كالانتباه والذاكرة واللغة وحل المشاكل والتفكير. ومن جانب آخر، يأتي سوء التغذية، ومعه الظروف الصحية السيئة وعدم الاستقرار النفسي.. لينال من سلامة الطفل الجسدية والذهنية على حدّ سواء.
كذلك الأمر، يتسبب ما يمكن أن يتعرض له الطفل من تنمر و ابتزاز وعزلة إجتماعية، في اضطراب يلحق الأذى بهويته النفسية، و ينعكس جلياً على تصرفاته التي قد تظهر عدوانية أو انطوائية.
وبما أن الكثير من أطفال المعتقَلات هم مجهولو الآباء، كما ذكرنا، نتيجة ما تتعرض له الأسيرة من انتهاك لحياتها الجنسية، والمتمثل في الاغتصاب من قبل العديد من السجانين، فإنه من الضروري عرض التأثيرات السيكولوجية لهذه الوضعية الأليمة على الطفل. إذ تتبدى هوية الطفل مأزومة و مشوشة، فيبدأ بطرح الكثير من الأسئلة حول أصله وهوية والده البيولوجي . كما يعيش صراعاً متعلقاً بغياب هذا الأخير، في محاولته اليائسة للبحث عن معنى لذاته وحياته.
و تولّد هذه الحال لديه شعوراً كبيراً بالدونية والنبذ والترك.. ينال من تقديره لنفسه، ويعزز عدم ثقته بالمحيط. ومن أجل إشباع النقص الناجم عن عدم معرفته بهوية أبيه، فإنه يحاول جاهداً البحث عن بديل لصورته، أو إلى بناء علاقة ثابتة مع الأم، بهدف التعويض عن خسارته للأب. وإذا ما قاربنا تأثير هذه الوضعية على سلوكياته، فتظهر عدوانية و عنيفة، ليس فقط تجاه الآخر الذي يسقط عليه مسؤولية واقعه فحسب، و إنما أيضاً تجاه الذات.
يتسبب ما يمكن أن يتعرض له الطفل من تنمر و ابتزاز وعزلة إجتماعية، في اضطراب يلحق الأذى بهويته النفسية، و ينعكس جلياً على تصرفاته التي قد تظهر عدوانية أو انطوائية
يجد “مجهول الأب” الذي تربى في المعتقل أو السجن صعوبة في التعبير عن انفعالاته ، فيلجأ إلى قمعها وكبتها. مما يزيد من عدم توازنه النفسي و يضيب تواصله مع الآخرين.
وفيما يتعلق بمعالجة التأثيرات الناجمة عن واقع الطفل الذي يتم تناوله، فهي متعددة الأبعاد. يتجلى البعد الأول في العلاج النفسي، الذي يعدّ ضرورة، لأنه يسمح للطفل بالتعبير عن مشاعره وانفعالاته. و هذا ما يساعده على أن يتقبل حياته، و من ثم يتخطى واقعه المأزوم والتكيف مع محيطه. وبدوره، يشكل تعزيز تقدير الذات، عاملاً هاماً في نجاح هذا العلاج. لذلك يتم العمل عل تطوير مواهب الطفل، لتمكينه من إيجاد قيمة لحياته حتى مع غياب الأب. ويؤدي تبنّي البرامج التربوية والاجتماعية وتطبيقها، عبر المشاركة في نشاطات تقوي تواصله مع الآخرين، إلى نجاح اندماجه في محيطه، و اكتسابه لمهارات كبناء الصداقات مثلاً.
إقرأ أيضا: حصاد 2024.. عام الحروب والفوضى
لا تعد الأنظمة الاستبدادية “مقبرةً” للحرية التي تكشف وحشيتها فحسب، بل أيضاً تسعى إلى الانتقام من الطفولة، التي تسقط عليها ضعفها وهشاشتها. بتعبير آخر، تستخدم الانتقام والاسقاط كأواليتين دفاعيتين، لحماية نفسها من جبنها.
يمتلك الطفل فرادته، لذلك وجب احترامها والعمل على حمايتها بكل الوسائل الممكنة، من أجل النهوض بالمجتمع.