كأنه سقوطُ جدار برلين. هكذا بدا وقْعُ طيّ أكثر من نصف القرن من حُكْم «الأسديْن» لسورية والذي جاءَ في توقيتٍ إقليمي – دولي «أطْلقه» طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023 ووَضَعَ المنطقةَ برمّتها تباعاً أمام مفترقٍ يشي بأن «تنعطف» معه إلى شرق أوسط جديد بدأ يلوح من انهياراتِ محور الممانعة… من أذرعه وساحاته الحصينة.
فمنذ أن زفّتْ آذانُ الفجر تكبيرات «الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً» إيذاناً بهروب الرئيس بشار الأسد وسقوط حُكْمِه، وأيقظتْ الزغاريدُ ياسمين دمشق الذي أزهر «حرية» ولو بعد حين، وَقَعَ لبنان ومعه العالمُ تحت تأثيرِ صدمةِ سرعةِ تَداعي نظامٍ قَبَضَ على سورية بالحديد والنار تارةً والقمع دائماً، إلى أن حوّلها حمامَ دمٍ منذ اندلاع الثورة في 2011.
ومن خَلْف غبار الحَدَث الذي «زَلْزَلَ» الإقليمَ، رغم أن «الهزات التمهيديةَ» في الأيام العشر السابقة كانت تشير إلى أنه باتَ قاب قوسين أو أدنى، بدت بيروت والمنطقةُ أمس:
- عيْن على «اليوم التالي» في سورية وكيفية توفير «ممرٍ آمِنٍ» لعبورها من قبضة الأسد إلى آلية حُكْمٍ تتطلّب تَقاطعاتٍ بين قوى النفوذ في البلاد لتفادي «اقتطاعاتٍ» تصيب وحدتَها أو مَخاطر انجرارها إلى صراعاتٍ داخلية.
- وعَيْن أخرى على «مَن التالي»، بعد غزة، ولبنان، وبلاد الشام، من الدول – الساحات لـ «الممانعة» والتي صارتْ تَجمع بينها وحدةُ مصيرٍ يتمحور حول إخراج النفوذ الإيراني منها، وسط خشيةٍ من أن تشجّع التراجعاتُ المتتالية لـ «المحور» والضربات المتلاحقة التي يتلقّاها على بلوغ «دومينو» المتغيرات «رأس التنين» نفسه (أي طهران) الذي توعّده بنيامين نتنياهو، بالتوازي مع تَحذيره الأسد «من اللعب بالنار» – يوم أَعلن وقف النار في «بلاد الأرز» – بأنه صار على «رأس أولوياته».
وفيما كانت أوّلُ قراءاتٍ في بيروت للسقوطِ المدوّي للأسد تربطه بـ «عدوى» ضمور القوة الذي بدأ مع الذراع الأقوى لـ«المحور» أي «حزب الله» وأصاب إيران بحُكْمِ «العلاقة العضوية»، فإنّ هذا الاستخلاصَ سرعان ما أُسْقِط على مَعاني وَقْفِ النار في لبنان بموجبِ اتفاقٍ جرى «الترويج» له بعد «تَجَرُّعه» من «حزب الله» على أنه يعبّر عن «انتصارٍ» و«تألُّق المقاومة» وإحباطها «أهداف العدو» وعلى رأسها «الشرق الأوسط الجديد» الذي تحدث عنه نتنياهو، وإذ به يُرسم «دولة دولة»، وفق خصوم الحزب، من «بلاد الأرز» منذ أن اغتيل السيد حسن نصر الله وصار الوطن الصغير «تحت وصاية» لجنة خماسية برئاسة جنرال أميركي، مروراً بسورية التي أصبحت بين ليلة وضحاها… بلا الأسد.
“كرنفال فرح”
وفي الوقت الذي كان لبنان في غالبية مَناطقه «ينفجر» كرنفال فرح واحتفالاتٍ على الرطق وبـ «الطبل والزمر» وحتى الرصاص بسقوطِ حُكْمِ «البعث» الذي روّع البلادَ ومختلف مكوّناتها حتى بات لكل منها تقريباً «شهيدٌ» تغمسّت يد «أحد الأسدين» بدمائه، بالتوازي حركةٍ على المعابر الحدودية مع بلاد الشام من نازحين عائدين إلى «سورية الحرة» أو «الجديدة» وهاربين منها (غالبيتهم من الشيعة وداعمين للنظام) أعربوا عن خشيتهم من «أعمال ثأر»، فإنّ «تسونامي» انهيار النظام السوري بدا وقعُه في «بلاد الأرز» مدجّجاً بعناصر ذات صلة «بما كان» أكثر منها ترتبط بما سيكون في دولةٍ جارة لطالما كانت العلاقة معها مليئة بالكوابيس في ضوء «أحلامِ» الـ «شعب واحد في بلدين» والتي غلّفت تلكؤاً في الاعتراف، عبر العلاقات الديبلوماسية، بلبنان استمرّ حتى صيف 2008.
لبنان «يحترم إرادة الشعب السوري» ويؤكد «أهمية علاقات حسن الجوار»
ولم يكن عابراً في اليوم الأول لـ «سورية من دون الأسد» أن «يكون الغائبون الأكثر حضوراً» في احتفاليةِ وداع حقبةٍ سوداء، تكرّست منذ دخول الجيش السوري لبنان في 1976 وحتى انسحابه القسري في 26 ابريل 2005، وانطبعتْ بما راوح بين «وصاية» و«احتلال» وبعملياتِ اغتيال متسلسلة لعلّ أبرزها للزعيم الدزري كمال جنبلاط (1977) والرئيس المنتخب بشير الجميل (1982) ومفتي الجمهورية حسن خالد (1989) ثم رئيس الجمهورية رينيه معوض (1989) وصولاً إلى الرئيس رفيق الحريري (2005) وما تلاه من جرائم طالت قادة وشخصيات في قوى «14 آذار» اتُّهم بها سياسياً النظام السوري و«حزب الله» الذي دين عناصر منه في اغتيال 14 فبراير 2005 (الحريري).
كرنفال فرح انفجر «طَبْلاً وزمْراً» على الطرق و«شهداء الاغتيالات» الغائبون الأكثر حضوراً
وهذا تحديداً ما فسّر الأبعادَ التي اتّخذتْها فرحةٌ كانت هذه المرة أكبر بكثير من نسخة ابريل 2005، وسط اعتبار كثيرين من خصوم النظام السوري بأنه بعد خروج الأسد وجيشه من لبنان على دم الحريري «ها هو يخرج من سورية نفسها على دماء السوريين التي أراقها»، قبل أن تتّجه الأنظار إلى تعليقات «أولياء الدم» المباشرين أو من أحزاب، على سقوط «طاغية الشام».
جنبلاط والحريري
وجاء اتصال الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط بالرئيس السابق للحكومة زعيم تيار المستقبل سعد رفيق الحريري الأكثر تعبيراً عن التراجيديا اللبنانية التي حملت توقيع «الأسدين»، إذ أكد نجل كمال جنبلاط أن «عدالة السماء تحققت بالنسبة للرئيس رفيق الحريري وسائر شهداء 14 آذار بسقوط نظام بشار الأسد». وكان ردّ الحريري: «الله يرحم والدك المعلم كمال جنبلاط».
وإذ دعا النائب نديم بشير الجميل إلى احتفال في ساحة ساسين – الاشرفية مساء أمس «لمناسبة سقوط طغاة الشام، قتلة الرؤساء والأحرار» موجَّه من «الرئيس بشير الجميّل»، قبل أن يعلن حزب «القوات اللبنانية» عن احتفالات في غالبية المناطق حيث تتواجد، كتب النائب ميشال رينيه معوض «ولو بعد حين»، مرفقاً بهاشتاغ «التاريخ لا يلغى بقرار».
وكان «تيار المستقبل» الذي هبّت مناطق عدة له نفوذ فيها إلى تحركات في الشارع حملت صور الرئيس الحريري، بالتوازي مع احتفالاتٍ عفوية في كل من طرابلس وعكار والطريق الجديدة وصيدا وغيرها وشارك في بعضها نازحون سوريون، بارك للشعب السوري «انتصار الحق على الباطل، وإسقاط نظام بشار الأسد».
وذكر في بيان «سنبقى كما كنا من اللحظة الأولى، الى جانب الشعب السوري، ومهما تحملنا من جبروت النظام، فهو لا يساوي شيئاً ما تحمله هذا الشعب السوري على دروب التحرر من الماضي الأسود، عبر نظام بشع أمعن بالتنكيل بهم وبقتلهم وقتلنا، والتاريخ يشهد».
إقرأ ايضاً: سوريا تخطف الحدث الجنوبي.. و٣ شهداء مدنيين بخرق إسرائيلي جديد في دبين
وأضاف: «ندعو كل اللبنانيين في هذه المرحلة الدقيقة إلى الحفاظ على الوحدة الوطنية، وحماية ما حققه الشعب السوري من أي مخططات لضرب الاستقرار من حوله (…) المجد للشعب السوري وثورته، والخلود لكل التضحيات العظيمة التي أزهرت ربيع دمشق المجيد».
بدوره استبق جنبلاط، الذي تَقاطر مُناصروه الى ضريح والده في المختارة (كان عيد ميلاده في 6 ديسمبر)، اتصاله بالحريري (حَضَرَ مفتي الجمهورية وعدد من المَشايخ الى ضريح والده في وسط بيروت) موثّقاً الساعات الأخيرة قُبيل سقوط الأسد، وقال: «اليوم سيكون للثأر ونهاية بشار الأسد، كيف ستكون سورية الجديدة؟ أتردّد في القول نظراً لأنّه بعد 54 عاماً من حكم الأسد مع العلويين في سورية، أعتقد أننا أمام منعطف كبير في تاريخ الشرق الأوسط»، وسأل: «هل ستبقى سورية موحّدة أم أنه الاعلان عن تقسيم وحرب أهلية؟».
وأكد جنبلاط أنّه «في جميع الأحوال، ستتحقّق العدالة لرفيق الحريري وجميع شهداء 14 آذار… العدالة ستتحقق لمئات آلاف ضحايا القمع. العدالة ستتحقق لعشرات آلاف السجناء والمخفيين في السجون السورية».
ملف المخفيين قسراً
وملف المخفيين قسراً شَغَلَ لبنان منذ بدايةِ سقوط حلب وحماه وتحرير السجناء، قبل أن يتحوّل عنواناً رئيسياً في ضوء انهيار النظام وفتْح كل السجون ما خلا «الطبقة الحمراء» التي تعذّر (حتى عصر امس) دخولها بسبب الحاجة إلى فكّ شيفرة أبواب «غرف الموت».
ومع تَضارُب المعلومات حول وجود لبنانيين بين المحرَّرين، من ضمن لوائح تضمّ نحو 600 مواطن سبق أن وثّق ملفاتهم ذووهم وجمعيات تبّنت قضيتهم منذ عقود ولطالما أنكر نظام الأسدين وجودهم في معتقلاته، طلب رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي من الأمين العام لمجلس الوزراء محمود مكية التواصل مع «الهيئة الوطنيّة للمفقودين والمخفيين قسراً في لبنان» ومع لجنة معالجة قضية اللبنانيين المعتقلين في سورية، مشدداً على «وضع كل الإمكانات المتوافرة والتواصل مع الجهات المعنية في ضوء الافراج عن مئات السجناء من السجون السورية».
وعلى الأثر، اتصل مكية بالهيئة واللجنة وطلب منهم الاجتماع بصورة عاجلة لإجراء الترتيبات اللازمة لمتابعة الملف، وتبلّغ أنّ الهيئة واللجنة ستجتمعان في الساعات المقبلة.
كما تابع ميقاتي الأوضاع الأمنية في لبنان، ولاسيما على الحدود مع سورية خلال اتصال مع قائد الجيش العماد جوزيف عون وقادة الأجهزة الأمنية. وشدد على «أولوية التشدد في ضبط الوضع الحدودي والنأي بلبنان عن تداعيات المستجدات في سورية».
كما دعا «اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم الى التحلّي بالحكمة والابتعاد عن الانفعالات خصوصاً في هذا الوقت الدقيق الذي يمر به وطننا».
وعلى أثر اجتماع وزير الخارجية عبدالله بو حبيب بميقاتي أصدرت الخارجية بياناً أعلنت فيه أنها «تتابع باهتمام كبير التطورات الحالية الحاصلة في سورية، وتؤكد مجدداً أهمية الحفاظ على سيادة سورية، واستقلالها، ووحدة وسلامة أراضيها، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.»
ملف المخفيين في سجون البعث إلى الواجهة مع تقارير عن «اكتشاف» بعضهم
كما شدّدت على رغبة لبنان «ببناء أفضل العلاقات مع الدولة السورية وممثليها، بما يحفظ المصالح المشتركة للبلدين. كذلك يحترم لبنان إرادة الشعب السوري حيث يعود له وحده اختيار ممثليه، ونظامه السياسي، ورسم مستقبل بلاده لما فيه خير سورية مع تأكيد أهمية علاقات حسن الجوار بين لبنان وسورية».
وكانت قيادة الجيش اللبناني أعلنت أنّه «في ظل التطورات المتسارعة والظروف الدقيقة التي تمر بها المنطقة، تتابع قيادة الجيش الوضع على الحدود وفي الداخل منعاً لأي تهديد للسلم الأهلي. وفي هذا السياق، جرى تعزيز الوحدات المكلّفة مراقبة الحدود الشمالية والشرقية وضبطها بالتزامن مع تشديد إجراءات المراقبة، كما تنفذ الوحدات المنتشرة على مساحة لبنان تدابير استثنائية لحفظ الأمن وحماية السلم الأهلي».