وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: الهوية العربية في راهنها المتحول 

وجيه قانصو

تقع الهوية العربية في صلب اهتماماتنا، كوننا متواجدين في قلبها جغرافياً وتاريخياً وسياسياً وثقافياً، والأهم من ذلك لغوياً. قد نحمل تصورات متعددة ومتناقضة عنها، وقد يكون لبعضنا مواقف سلبية عنها، لكننا معنيين بنقاشها واستحضارها في الوعي. ورفض التفكير بها لا يحجب فعليتها وحقيقتها، بل يحجب وعينا بها ويكون بمثابة هروب منها ومسوغ للجهل بها، لا لإلغاءها أو التقليل من أهميتها.

ننطلق في قراءة الهوية العربية من الراهن، أي من الواقع الفعلي والمعيش والملموس، الذي يمكن قياسه وتوليد معطيات وحقائق لبناء تصورات عنه.

بالتالي نقرأ الهوية العربية في حضورها لا غيابها، حسنها وقبحها، فعليتها لا افتراضها، حسيتها لا تخيلها، في ما هو كائن لا ما يجب أن يكون، بما هو منجز ومتحقق، وما يحمله من إمكانات واحتمالات مختزنة، بقابليته لأن يصير ويتحول.

الهوية، ليست حقيقة ثابتة وجوهرانية، بل كائن تاريخي يتشكل في التاريخ

هذه الهوية نقرأها في طور تحولها وانتقالها إلى طور آخر، وكل الإلصاقات الغيبية أو الميتافيزيقية بها هي ضرب من الوهم. فالهوية، ليست حقيقة ثابتة وجوهرانية، بل كائن تاريخي يتشكل في التاريخ، وينشأ ويتطور داخل مسار قلق ومضطرب من الانقطاعات والإخفاقات والصراعات والانفصالات. فالهوية الثابتة كائن ميت.

الهوية مزيج من الخصائص الاجتماعية والثقافية التي يتقاسمها الأفراد ويمكن على أساسها التمييز بين مجموعة وأخرى. هذا الإنتماء ليس مجرد انتماء إلى جماعة خاصة أو دين أو ملة، بل هو انتماء إلى أمة. هذا الإنتماء: يولد إحساساً عميقاً بالمعية Togetherness أو النحنوية، يوفر لنا الإجابة عن: من أنا وأين أنتمي؟ وكيف يجب أن أكون وكيف يجب أن أعيش؟ يوجه خياراتنا ويحدد سلوك الفرد وكيفية إدراكه لنفسه، يولد انشداداً وجدانياً حول الجماعة، ويستدعي العواطف مثل الكبرياء والفخر والحب لأمته، وشعور بالالتزام تجاه مواطنيها حتى لو كان لا يعرفهم.

الإنتماء إلى الأمة حديث العهد في الوجود الإنساني، جاء إثر تفكك الامبراطوريات التي لم تتأسس على هوية جامعة، إنما على غلبة هوية أو إثنية معينة لباقي الهويات، مع وجود سلطة مركزية فائقة القدرة والسطوة. مع تفكك الأمبراطوريات، بدأت الهويات المتجاورة تنصهر داخل هوية موحدة، مستفيدة من الاتصال الجغرافي والثقافة المتشابهة والتاريخ المشترك، وأحيانا العرق واللغة الموحدين، ليتولد منها القوميات الحديثة. حصل هذا إما بفعل دولة فعلية قائمة أخذت تنشيء مشتركات ثقافية ولغوية وتاريخية، مثلما حصل في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا. وإما بوجود جماعات وظفت مشتركها الثقافي والجغرافي لإنشاء دولة جامعة، مثلما حصل في سويسرا وبلجيكا والولايات المتحدة. بالتالي يكون المعنى السياسي للهوية القومية هي الدولة، ويكون المعنى الوجداني للهوية القومية هو الثقافة واللغة والتاريخ. وهو ما عرف في التاريخ الحديث بمبدأ الدولة-الأمة:State-Nation.

الإنتماء إلى الأمة حديث العهد في الوجود الإنساني، جاء إثر تفكك الامبراطوريات التي لم تتأسس على هوية جامعة

لم تكن الهوية العربية في المجال العربي موضوع تفكير سابق. فالإطار الحضاري قبل الاحتكاك بالحداثة الغربية، امتزج فيه الإنتماء الديني بالانتماء العضوي مثل القبيلة والعائلة والإثنية. كانت الخلافة أو الإمامة الكبرى أساس أية مشروعية سياسية، وكانت الإثنيات والاعراق والقوميات المتعددة متواجدة لا بصفتها هويات أمة، وإنما هويات فرعية عضوية أو بدئية، أي هويات ولادة. وكان الطابع الغالب في الحكم السياسي هو حكم الأسر والعائلات والأعراق (عرب، فرس، ترك، كرد). هي وضعية حجبت سؤال من نحن بصفتنا أعضاء في أمة ذات حقيقة سياسية ومكونات ثقافية، وحالت دون تشكل نظرية هوية أو نظرية دولة.

كان أساس التضامن بحسب ما وصفه ابن خلدون هو عصبية النسب أو الدم، التي تقوم العلاقة بينها وبين العصبيات الأخرى على مبدأ القهر والغلبة. أما الرابطة الدينية فأساسها الانتماء إلى الله الواحد، وهي رابطة غيبية، تتعالى على الزمان والمكان، ينحصر الولاء والطاعة والانتماء فيها بالله وحده. ما يحول دون تولد رابطة إنسانية مباشرة، أو ولاء سياسيا للوطن أو الأمة أو الدولة.

ظلت العلاقة بين العروبة والإسلام حتى أواخر القرن التاسع عشر ملتبسة. بل كان هنالك نوع من تلازم وتوافق بين العروبة والإسلام. تجلى ذلك في خطاب جمال الدين الأفغاني الذي تحدث عن الأمة الإسلامية وعروتها الوثقى وعن الحاكم الإسلامي، وفي خطاب رشيد رضا الذي عمد إلى إحياء الخلافة بإطار عروبي، ويمكن تلمسه إلى حد بعيد في خطاب كل من الطهطاوي ومحمد عبده اللذان لم تتبلور لديهما أطراً تضامنية خارج الدين. بيد أن هذا التلازم أخذ بالتلاشي والإضمحلال في الخطاب القومي اللاحق. بحيث لم يعد الدين محدداً لمعنى الأمة، بل اقتصر على اللغة والتاريخ والثقافة.

ظلت العلاقة بين العروبة والإسلام حتى أواخر القرن التاسع عشر ملتبسة. بل كان هنالك نوع من تلازم وتوافق بين العروبة والإسلام

لو تتبعنا لحظات الهوية العربية في مسار ظهورها وتبلورها وخطابها المعاصر، أي بما هي مشروع سياسي وخطاب فكري، نجد أن الهوية العربية المعاصرة مرت بأربع لحظات أساسية: اللحظة العثمانية، اللحظة الاستعمارية، لحظة دولة الاستقلال، ولحظة ما بعد دولة الاستقلال.

ظهر التوجه العروبي لأول مرة في اللحظة العثمانية، داخل دائرة صغيرة من المثقفين اشتغلت على إحياء اللغة العربية وآدابها، وبرزت إسهامات رائدة من كتاب في سوريا ولبنان أمثال: ناصيف اليازجي وبطرس البستاني والشيخ حسن المرصفي. هو نشاط ثقافي لا يحمل مضمونا سياسياً ولم يكن فيه تنظير لمعنى الأمة. بل هو أقرب إلى ردة فعل على حملات التتريك التي دفعت العربي إلى تأكيد غيرية ذاته واختلافها.

اللحظة الثانية: هي سقوط الأمبراطورية العثمانية، والإنشغال بالاستقلال الوطني، ومحاربة تجزئة العالم العربي والاحتلال الأجنبي. ما حول المسألة القومية من مجرد تعبير ثقافي ولغوي إلى قضية سياسية، بخاصة الدعوة إلى الوحدة، لكن هذه المرة لا على أساس ديني وإنما قومي. هي فكرة جاذبة سياسياً وقادرة على استثارة مشاعر قومية ولديها قدرة استقطاب جماهيري، لكن بمضمون نظري ضعيف وأساس فكري ضبابي وملتبس.

اللحظة الثالثة: تراوحت بين ثلاثينيات وستينيات القرن العشرين، وشهدت نشوء دولة الاستقلال. حينها كان الشعور القومي متداخلاً مع الشعور القطري المحلي، فالأفق أفق الأمة القومية المتحدة في كيانها السياسي وتشترك في مكوناتها الثقافية واللغوية والتاريخية. بالتالي كان طموح الوحدة العربية هو أولوية الأجندات السياسية.

وصل الشعور القومي في هذه الفترة إلى ذروته، مع نشوء حركات قومية عديدة: أمثال القوميون العرب، الناصرية، والبعث العربي الذي انقسم إلى بعث سوري وبعث عراقي. ترافق مع ذلك زخما وكثافة في التنظير للقومية العربية أمثال تنظيرات: ساطع الحصري، قسطنطين زريق، نديم البيطار، زكي الأرسوزي، ميشال عفلق، ياسين الحافظ.

تفاوتت الأطروحات والنظريات، لكنها نشأت على خلفية النظريات الأوروبية للقومية

على المستوى النظري، تفاوتت الأطروحات والنظريات، لكنها نشأت على خلفية النظريات الأوروبية للقومية، التي تراوحت بين التنظير الألماني للقومية أمثال هردر وفخته وغوته وهيغل من جهة، وبين الفهم الفرنسي للقومية وفي مقدمهم أرنست رينان من جهة أخرى. أي لم تكن الأصول النظرية لفكرة القومية العربية محلية، بل كانت نماذجاً مقتبسة ومترجمة.

تعتبر النظرية الفرنسية أن العامل الجوهري في تكوين الأمة يتركز في إرادة السكان الطوعية ومشيئتهم المشتركة في العيش معا. فلا اللغة ولا التاريخ يحددان حقيقة الأمة أو نشوءها، بل التضامن الواسع بين الأفراد ورغبة في العيش المشترك. فالأمم بحسب أرنست جيلنر “حوادث مصطنعة تنتجها معتقدات البشر وتضامنهم وإخلاصهم”. أما النظرية الألمانية فتعتبر أن الأمة جماعة طبيعية لا تعاقدية إو إرادية، هي خصائص ذاتية غير طوعية مثل اللغة والتاريخ والعرق. بالتالي فإن الأمة تسبق الدولة، وليست الدولة سوى أداة لحماية هذه الجماعة وتوحيدها واستمراريتها، أي هي عنصر خارج حقيقة الأمة.

قدم ساطع الحصري نظرية في تكوين الأمة، معتبرا أنها متقومة باللغة والتاريخ. فاللغة محور القومية وعمودها الفقري، والتاريخ روح الأمة وذاكرتها. أما الدولة فهي نتيجة لتكون الأمة ولا تكون باعثا لتكوينها. أنتج الحصري أنتربولوجيا ثقافية حول الأمة أكثر مما أنتج نظرية سياسية في الوحدة. ما جعلها أمة متخيلة، منفصمة عن الواقع، تقف فوق تنوعات الواقع وتناقضاته.

أما نديم البيطار فقد قدم نظرية حول الوحدة العربية، في كتابه من التجزئة إلى الوحدة. معتمداً على قوانين التاريخ، معتبراً أن الظاهرة الاجتماعية موضوعية وانتظام أمرها يقوم على قوانين حاكمة لها تتمثل في قوانين أساسية وقوانين إعدادية. أما الاساسية فهي: وجود الإقليم القاعدة الذي يتمحور حوله العمل الوحدوي، وجود قيادة مشخصنة تستقطب مشاعر الشعب، ووجود مخاطر خارجية تولد الضغط والتحديات التي تدفع إلى الاتحاد والوحدة.

الدولة بنظر البيطار مفهوم سياسي، وهي التي تخلق الأمة وليس العكس، ومن الخطأ التفكير في الأمة بمعزل عن الدولة أو التفكير فيها قبل الدولة. فالدولة تنتج الوحدة الثقافية واللغوية وتفرضها على المجتمع، والنموذج التاريخي للأمة يتحرك من السياسي وينتهي بالثقافي وليس العكس.

رغم مركزية الدولة عند البيطار، إلا أنها دولة مشخصنة، توكل إلى فرد ذي مواصفات كارزمية مهمة التحول الكبير. فلا تعود دولة مجتمع أو سلطة قائمة على التنافس المجتمعي، بقدر ما هي سلطة يفوض إليها كل الصلاحيات لتنجز مهمتها التاريخية بالوحدة والنهضة.

انتهى الحصري إلى قومية جبرية غير اختيارية تتعالى على الواقع، وهوية جوهرانية ثابتة ميتافيزيقية. وانتهى البيطار إلى مجافاة الإنسان الفرد، وأوكل المهمة القومية إلى قائد كاريزمي مطلق الصلاحيات، وانطلق من مشروع سياسي من دون مضمون. اللافت أن الإثنين اتفقا على حقيقة واحدة وهي: غياب الإنسان، في حريته ومبادرته ووعيه وتضامناته.

ترافق مع الزخم الفكري للنظرية القومية، حركات سياسية قومية ذات مشروع سياسي وأجندة قومية وحدوية. هي حركات جاءت بوعود حالمة، لكنها منيت بفشل متعدد الابعاد. أخفقت في ضمان الأمن القومي ضد إسرائيل، فشلت في مبادرات الوحدة العربية، فشلت في التنمية الاقتصادية وتأمين الرفاه، والأهم من ذلك، تسببت بغياب أمن الإنسان الوجودي، بعد أن أخفقت في حفظ الحقوق والحريات والتعبير وضمان تداول السلطة بطريقة سلمية. كان أساس الحكم هو الإنقلابات العسكرية، ومدار الاستمراراية هو النموذج الستاليني والقائد المؤله.

ترافق مع الزخم الفكري للنظرية القومية، حركات سياسية قومية ذات مشروع سياسي وأجندة قومية وحدوية

اللحظة الرابعة: هي لحظة سقوط المشروع القومي برمته، وانكفاء الهوية إلى إطارها القطري المحلي. وبتنا أمام مجموعة دول قطرية تعطي أولوية لقضاياها المحلية. وتحولت الفكرة القومية والهوية العربية إلى كلام للشعراء والفنانين، بعدما اكفأت سياسياً، وتهافت مضمونها الفكري.

هذا استدعى في فترة السبعينيات وحتى زماننا الراهن، التفكير بماذا كان الخطأ. أي ارتد الفكر القومي والعربي إلى ذاته، في مسعى لا لإلقاء اللوم على العدو (الخروج من عقيدة المؤامرة)، وإنما للتعرف إلى الذات وإلى أعطابها وثغراتها. هي لحظة الوقوف في المرآة بشفافية لقراءة الذات لا تمجيدها والتسامي بها. وقد أثارت الأدبيات النقدية جملة نقاط أساسية أهمها:
أن الهوية العربية هوية متخيلة، غير واقعية، انتقائية في تعاملها مع الذاكرة، وجدانية اكثر منه واقعية. بل هي هوية تقفز فوق التفاوتات والفروقات الثقافية والدينية والعرقية، وتفرض نفسها على الواقع بدل أن تكون نابعة منه.

أنها الهوية جاءت ردة ضد التحدي الآخر العثماني والأوروبي الاستعماري، أكثر كونها مبادرة أو ثمرة ضلوع في مشروع حقيقي لبناء الذات.
أن الخطاب القومي كان خطاباً طوباوياً، متخماً بالآمال التي تتعالى على مآزق الواقع وتناقضاته. ما جعلها أفكار تعبئة وتحشيد، لا تحمل بداخلها مقومات انتظام عام، أو تأسيس نظري للعلاقة بين الدولة والمجتمع، بل ظل مفهوم الأمة إطلاقياً وتعبيرات وجدانية وتعاطفاً مشتركاً لا يعرف كيف يترجم نفسه إلى حياة فعلية ووجود ملموس.
أن النموذج الأمثل للحكم هو سلطة الحزب الواحد، الذي لا يستمد مشروعيته من المجتمع، ولا ينظر لمشروعية التمثيل الشعبي، بل يؤسِّسُ سرديات أسطورية ويروج لقيادة كارزيمية تحمل تفوقاً طبيعياً إستثنائياً وخُلُقية أبوية ورعائية.

أن مبدأ الحكم يقوم على عقيدة التقدم، التي هي مهمة تاريخية، ذات طبيعة متعالية غيبية لا ينتجها المجتمع بل تنتجها النخبة الحاكمة، وموجهة ضد المجتمع نفسه. هي عقيدة تدين المجتمع تتهمه بالانحراف والقصور والتقصير، وتعمد إلى إقالة كقوة مستقلة، وتدفع باتجاه أن يسلم المجتمع نفسه ومصيره طواعية للدولة الطليعية ولرموزها الاستثنائية. إنها عقيدة تقوم على تغييب كامل للفرد، مع سطوة بوليسية، ليس فيما يصرح به ويعلنه، وإنما فيما يستبطن في داخله.

مبدأ الحكم يقوم على عقيدة التقدم، التي هي مهمة تاريخية، ذات طبيعة متعالية غيبية لا ينتجها المجتمع بل تنتجها النخبة الحاكمة

كل ذلك يسمح لنا القول بأن المشروع القومي، هوية ومشروعاً سياسياً، جاء متناقضاً، يحمل بذور فنائه وموته في منطقه الداخلي، كونه مشروعاً منفصماً عن الواقع، إما بداعي الهروب منه والتنكر له، أو التعويض عن أزماته وانكساراته بتصورات متخمة عن الذات والهوية. هو مشروع جاء محملاً بالأماني والرغبات، بالشعار لا بالنظرية، بالوعود لا بالفعل، بالادعاء لا بالتفحص. التفت إلى الماضي ليبحث عن مخرج لمأزقه، فجاء تصوره لماضيه وتاريخه انتقائياً وأيديولوجيا، والتفت إلى مستقبله فصب فيه أحلامه ورغباته وأمانيه، فجاء مستقبله طوباوياً ومنفصلا على الواقع، جعله يتداعى ويتفكك بل يتحطم عند أول اصطدام بتناقضات هذا الواقع وتبايناته.

السابق
الجيش الإسرائيلي يزعم العثور على وسائل قتاليّة في جنوب لبنان
التالي
طريق «طهران-بيروت» انقطعت.. الجيش السوري ينسحب من الرقة ودير الزور ويسلمها لـ«قسد»!