ظهر أبو محمد الجولاني في قلعة حلب، ولم يظهر بشار الأسد في دمشق او حمص او حتى اللاذقية. الخوف ليس مقياساً وحيداً لسبب هذا الغياب، لكنه مؤشر مهم.. يوحي بأن المواجهة ربما خرجت من حسابات الرجلين وتقديراتهما..مثلها مثل حسابات تركيا، التي كانت ولا تزال الطرف الوحيد الذي يستطيع ان يوقف اطلاق النار خلال ساعات أو أيام.
هذا اللغز مبني على حقيقة أن أحداً في أنقرة أو دمشق أو طهران، يعرف الى أين تتجه المعارك: نحو حماة ثم حمص فدمشق؟ أم نحو الساحل السوري وجباله المحرمة، التي تتمتع بغطاء عسكري وسياسي روسي، يحظى بالمباركة الأميركية والغربية.
ظهر الجولاني في قلعة حلب ولم يظهر الأسد في دمشق او حمص او حتى اللاذقية الخوف ليس مقياساً وحيداً لسبب هذا الغياب لكنه مؤشر مهم
لعل الجولاني بالغ في التقدم، وفي الظهور العلني، مثلما أفرط الأسد في الهلع والاختفاء. لم يحقق الجولاني نصراً تاماً، ناجزاً، ولم تكتمل الرؤية لحدود منطقة نفوذه الموسع. ولم يعرف ما اذا كان الأسد قد فكر في حزم حقائب السفر من دمشق، على غرار ما فعل مرتين حتى الان، الأولى إبان الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، والثانية في العام 2015 عندما كانت قوات المعارضة السورية، تخترق أحياء العاصمة السورية.
الأرجح أن الرجلين يتقاسمان اليوم الكثير من الاحلام المستعادة، منها ان الأسد، يتمنى ويترقب بلا شك، زحفاً عسكرياً روسياً-إيرانياً جديداً، يقضي على القوات المعارضة المتقدمة من الشمال ويزيلها من الوجود، بالغارات الجوية والصاروخية المدمرة، كما فعل قبل تسع سنوات، ويعيد وحدات الجيش السوري الى مناطق انتشارها، حتى الحدود مع تركيا، ويحيل المعركة الحالية الى الذاكرة البعيدة.
إقرأ ايضاً: اذا كان هذا «إنتصاراً»..فكيف «الهزيمة»؟!
وليس من المستبعد، أن يكون الجولاني نفسه، الذي ظن ان الحملة العسكرية الحالية الهادفة الى إحياء القضية السورية وتوسيع وجود المعارضة السورية الى محافظة حلب، مما يسمح لتركيا بإبعاد نحو نصف مليون نازح سوري من أراضيه، بات يحلم باليوم الذي سيقف فيه خطيباً، وحاكماً، في إحدى ساحات دمشق التي تنتظم فيها تظاهرة مليونية لم يشهد التاريخ السوري مثيلا لها.
الصراع بين الاسد والجولاني وما يراودهما من أحلام وأوهام لم يبلغ ذروته..لأنهما أشبه بأدوات لتركيا وإيران اللتين لم تكشفا خططهما المقبلة
لكن الرجلين اللذين يتقاسمان هذه الاحلام، يتقاتلان بالأوهام أيضا: ولا يحتاج المرء الى الكثير من الحسابات لكي يدرك أن كلفة تحقيق حلم الأسد بمحو الزحف المعارض من الشمال نحو العاصمة، او نحو الساحل، هي أعلى بكثير مما كانت في العام 2015، على الروس والإيرانيين، والاخرين الذين يهبون اليوم لنجدة النظام السوري، بأيادٍ مغلولة، وبوحدات او مليشيات عسكرية مهددة، وأسلحة وذخائر نادرة، وأموال شحيحة.. لا تفي حاجات سوريا الملحة أكثر من أي وقت مضى.
وكذا الامر بالنسبة الى وهم الجولاني بأنه سيكون قادراً على فتح دمشق ودخولها بقوات لا تختزل المعارضة السورية ولا تختصرها، منتصراً على نظام فارغ من المضمون، لكنه ما زال يحظى بشرعية إقليمية ودولية تفوق بما لا يقاس شرعية مختلف أشكال معارضيه، وما زال يمثل ويحمي ثلاث أقليات أو أكثر، ستكون مهددة الزوال، وستصبح خريطة سوريا الحالية مرسومة بالمجازر وملونة بالدماء لسنوات إن لم يكن لعقود مقبلة.
الصراع بين الرجلين وما يراودهما من أحلام وأوهام لم يبلغ ذروته..لأنهما أشبه بأدوات لتركيا وإيران اللتين لم تكشفا خططهما المقبلة، بعد مفاجآت الأسبوع الأول من المعركة السورية الحالية، ولم تقولا حتى الآن كلمتهما الأخيرة، وما اذا كان الهدف هو تفاوض على فك إشتباك ثم تسوية سياسية تتيح للجولاني ان يعلن نصراً لا يهزم بشار.. أو يمضي الصراع حتى النهاية الحتمية، التي تنتج البديل الثالث للرجلين، بعد تعادلهما وتكافؤهما في الهزيمة، وفي قيادة سوريا وشعبها نحو الخراب.