بعد النكبة التي حلت بلبنان عموماً والطائفة الشيعية خصوصاً، جراء الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان ، نتيجة حرب “المساندة والإشغال”، التي إبتدعتها إيران رأس محور الممانعة بإسم “وحدة الساحات”، ونفذها “حزب الله” من دون أي تقدير للعواقب التي قد تنجم عنها، وما ذلك سوى بسبب الغرور والثقة الزائدة بالنفس، التي صورت للحزب وللمحور بأكمله، إمكانية التحكم بمصير الحرب، وبأن العدو الصهيوني سيتعامل معهم بحسب رؤيتهم هم للوضع، وهو غباء سياسي ما بعده غباء، أثبتته الأيام للأسف والتطورات اللاحقة، مع أن هناك قول معروف ومتداول في علم السياسة، بما معناه، أنه من الممكن أن تبدأ حرباً ولكن من المستحيل أن تتحكم في نهايتها.
لن أدخل في جدل الإنتصار أو الهزيمة الدائر هذه الأيام، بين الآراء المختلفة التي يرى كل منها الأمور من زاويته، لكنني فقط أريد أن نتذكر سوية ونرى أين كنا منذ 24 عاماً أي في العام 2000، تاريخ تحرير الشريط الحدودي من جنوب لبنان، والذي كان تتويجاً وثمرة ل 22 عاماً من المقاومة والنضال، في أصعب الظروف لتحرير لبنان من الإحتلال الصهيوني، تخللها إحتلال عاصمته بيروت في العام 1982، هذا الإحتلال الذي كان السبب والشرارة الأولى في إطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية “جمول”، في 16 أيلول من ذلك العام، على يد القائدين محسن إبراهيم وجورج حاوي، من منزل الشهيد كمال جنبلاط. تعالوا نتذكر معاً يوم 25 أيار من العام 2000، يوم كان إنتصارنا الحقيقي الأول في لبنان، إنتصار لا غبار عليه حين نجحنا بتحرير أرضنا، دون قيد أو شرط ومن دون قرارات دولية، تفرض علينا وصاية من أي نوع، بل على العكس كان التحرير مدعوماً ومحصناً، بالقرار الدولي 425 الصادر عن مجلس الأمن، بعد الإجتياح الصهيوني الأول للجنوب اللبناني عام 1978، فباتت الأرض حرة، والشعب سعيد بما أنجز عبر المقاومة والتضحيات التي قدمها، وبدلاً من التمسك بهذا الإنجاز والحفاظ عليه بسواعدنا وأسناننا، طلعوا علينا بضرورة إستمرار المقاومة لتحرير مزارع شبعا المحتلة، والخاضعة للقرار 242 وليس القرار 425، كونها أحتلت عام 1967 وهي تحت السيطرة السورية، والمختلف على ملكيتها حتى اليوم بين البلدين، فكان أشبه بكلام “حق” أريد به “باطل”، يسعى لجعل لبنان ورقة في سوق المساومات الإقليمية.
في العام 2006، وفيما البلد يعيش أجواء الحوار حول الإستراتيجية الدفاعية الكفيلة بحمايته، سيما بعد الإنتصار الثاني الحقيقي، الذي تحقق للبنان في 26 نيسان من العام 2005 ، عندما تم الإنسحاب السوري من لبنان، وإن بثمنٍ غال كعادة كل تحرير، تمثَّل بإغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه الأبرار من مرافقين ومواطنين، وهو الذي كان يمثِّل الحلم لكثير من اللبنانيين في بناء دولة حديثة ومتطورة.
في هذه الأجواء في العام 2006، وبموازاة خطف حركة “حماس” جلعاد شاليط في غزة ، “تحمس” الشباب في “حزب الله” عندنا، وقاموا بخطف جنود صهاينة من داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، ما تسبَّب بحرب تموز، التي لم تتوقف إلا بعد تبني القرار 1701 في مجلس الأمن الدولي، وذلك بعد 33 يوماً من القتال، دُمِّرت خلالها الضاحية الجنوبية لبيروت، وأعيد إحتلال بعض الأراضي في الشريط الحدودي، والتي أستعيد بعضها بموجب القرار 1701، مقابل إخلاء جنوب الليطاني من أي سلاح غير نظامي، الأمر الذي لم يحصل وتم خرق الإتفاق من الجانبين، ووُضعت قواعد إشتباك جديدة جعلت الجنوب في خطر عسكري دائم، ودون غطاء سياسي بسبب القيود التي فرضها القرار الدولي 1701، والتي ألغت عملياً مفاعيل إنتصار التحرير عام 2000، ومع ذلك أعلن يومها الحزب “الإنتصار الإلهي”، بالرغم من مقولة “لو كنت أعلم” الشهيرة.
اليوم يأتي وقف إطلاق النار، ويُطبَّق من جانب واحد للأسف، وهو الجانب اللبناني، فيما الطرف الآخر يطبقه بإنتقائية ومزاجية
بعد 17 عاماً – وما أدراك ما جرَّت هذه الأعوام على لبنان من كوارث – ومع بدء عملية “طوفان الأقصى”، التي قامت بها كتائب عز الدين القسام إنطلاقاً من غزة، مرة أخرى “تحمس” الشباب عندنا في “حزب الله”، وهذه المرة مسلحين بالشعار الذي يوازي الفتوى، وهو شعار “وحدة الساحات” ، فأطلقوا عملية “المساندة والإشغال” دعماً لغزة و”حماس”، فكانت النتيجة بعد عام من الوساطات الدولية، وعروض التسوية التي قدمها الموفد الأميركي آموس هوكشتاين، من دون نتيجة تذكر، أن بدأت الحرب على لبنان بشراسة فائقة، ومن دون خطوط حمر ولا محرمات، بدأت بإستهداف آلاف الشباب في “موقعة البيجرز”، وإنتهت بتدمير هائل للجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، وتهجير أكثر من مليون لبناني وإذلالهم، عبر الإنذارات والإستهداف الممنهج، مروراً طبعاً بإغتيال أبرز وأكبر قيادات “حزب الله” السياسية والعسكرية، في حرب تركت وستترك آثارها الكثيرة والطويلة على لبنان واللبنانيين، وذلك قبل أن يهرع لبنان ل “إستجداء” – نقولها بمرارة – وقف إطلاق النار من الموفد الأميركي نفسه، الذي لم يتردد بتأنيب المسؤولين اللبنانيين، وتذكيرهم بزياراته وطروحاته السابقة عليهم، التي لم يقبلوا بها حينها.
اليوم يأتي وقف إطلاق النار، ويُطبَّق من جانب واحد للأسف، وهو الجانب اللبناني، فيما الطرف الآخر يطبقه بإنتقائية ومزاجية، لا نملك إزاءها إلا القبول، كما تم قبوله تحت سقف الإلتزام الحرفي هذه المرة بالقرار 1701 وبشروط أقسى، وتحت إشراف ووصاية دولية لن تكون عادلة طبعاً بحق لبنان، وهكذا نكون كمن أتى بالدب إلى كرمه مجدداً، وبطريقة أسوأ من قبل، إذ يبدو الوضع اليوم – إذا إستمر على هذا المنوال – وكأننا قد عدنا إلى زمن الستينيات والسبعينيات، من حيث الإعتداءات الصهيونية المتفلتة من أي رادع، ونكون بذلك فرطنا مجدداً بسيادتنا وأرضنا وتضحياتنا، طوال ال50 سنة الماضية.
هذه العقلية التي تتقن وتمارس الإنكار المَرَضي، هي التي أوصلتنا إلى هذا الوضع من الذل والهوان والإنكسار
ومع كل ما تقدَّم، طلع علينا البعض مرة أخرى، وكما في العام 2006، ليقنعنا بأننا إنتصرنا، الأمر الذي يذكرنا بإنتصار حسني البورظان في مسرحية “ضيعة تشرين”، حينما حاول إقناع الناس بأن العدو لم يكن يستهدف الأرض، بقدر ما كان يستهدفه هو كمختار يمثِّل النظام، وما دام النظام بخير فالبلد بخير. هذه العقلية التي تتقن وتمارس الإنكار المَرَضي، هي التي أوصلتنا إلى هذا الوضع من الذل والهوان والإنكسار، وهي المسؤولة عن ضياع أهم إنتصارين في تاريخ لبنان، عامي 2000 و2005، بتعنتها وإستكبارها.
لا نقول هذا عن إنهزامية ويأس، ولا عن رفض مساندة أخواننا في غزة، الذي نريده عقلانياً لا حماسياً، فلا يكلِّف الله نفساً إلا وسعها، وإلا نكون كمن رمى بنفسه في التهلكة وهذا ما حصل بالضبط، لذلك نحن نواجه الواقع كما هو، لأننا نعتقد بأن أولى خطوات الإصلاح، هو الإعتراف بالمشكلة والقصور في الممارسة، فهذا الإعتراف هو البداية للسير في خطوات الإصلاح لأنفسنا، ومنها ننطلق لإصلاح بلادنا، من منطلق أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. فهل نعقل.. ونفعل؟