بدت إقالة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لوزير الأمن يوآف غالانت، في إحدى دلالاتها الجوهرية، تجسيداً للمقولة الشهيرة لوزير الخارجية الأميركية السابق هنري كيسنجر: “إسرائيل لا تمتلك سياسة خارجية بل داخلية فقط”، كون الأمر يتعلق فعلاً بالصراعات والسجالات السياسية والحزبية والمنظوماتية الداخلية، بما في ذلك تأثيراتها وانعكاساتها على صورة وهوية الدولة، وفي السياق أيضاً، على الحرب الإسرائيلية في الجبهتين الجنوبية (غزة)، والشمالية (لبنان)، وحتى المواجهة التي باتت مباشرة مع إيران، كما تمنت وسعت إسرائيل طوال العقدين الأخيرين.
اقرأ أيضاً: ترامب «سيطيّر» نتنياهو من السلطة.. في أول فرصة
إذن ورغم ترويج نتنياهو لمجموعة من الحجج والذرائع والحديث عن انعدام الثقة والانسجام مع وزير أمنه، وبالتالي صعوبة العمل بينهما، إلا أن السبب الرئيس هو ما أعلنه غالانت شخصياً، ويتعلق برفض رئيس الوزراء تجنيد المتدينين (الحريديم)، مقابل إصرار وزير الأمن المقال على فعل ذلك، وعناد الأحزاب المتدينة ورفضها القاطع لتجنيد عناصرها وجمهورها، والتهديد بالخروج من الحكومة، وبالتالي تفكيك الائتلاف والذهاب إلى انتخابات مبكرة تشير استطلاعات الرأي وموازين القوى الحزبية الحالية، إلى هزيمة محققة لنتنياهو وحلفائه فيها، وصعوبة وحتى استحالة تشكيله حكومة جديدة، ما يعني خروجه من الساحة السياسية نهائياً، وربما دخوله السجن أيضاً، في ظل استمرار محاكمته بتهم الفساد والرشوة واستغلال السلطة، وأخيراً فتح ملفات تحقيق إضافية ضده تتعلق بتسريب وثائق وتزوير محاضر المجلس الوزاري الأمني قبل وأثناء حرب غزة.
بصورة أشمل، لا يتعلق الأمر فقط بتجنيد الحريديم وتوزيع أعباء الحرب على كافة فئات المجتمع الإسرائيلي، وإنما بالمنظومة السياسية والحزبية، ودور الحريديم وتحالف نتنياهو فيها، كما صورة الدولة العبرية ككل، خصوصاً مع اتضاح التأثير الهائل للمتدينين القوميين عبر تحالف وزير المالية زعيم “الصهيونية الدينية” بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن القومي زعيم حزب “القوة اليهودية” إيتمار بن غفير، على القرار السياسي العام وتوجهات الحكومة، وأخذها بعكس الاتجاه الذي رسمه جيل المؤسسين الأوائل، وجعل الدولة أكثر يهودية وأقل ديموقراطية وانفتاحاً على العالم والغرب تحديداً.
هنا لابد من الانتباه إلى تماهي نتنياهو السياسي مع حلفائه الأكثر تطرفاً، بعيداً عن متغيرات الخارطة الحزبية، وتوازن السلطات في الدولة العبرية، ودعمه المخططات الاستيطانية والتهويدية في الضفة الغربية، بما فيها القدس، ضمن مساعيه لتصفية القضية الفلسطينية، وبالحد الأدنى إزاحتها عن جدول الأعمال الداخلي والخارجي أيضاً.
أما الخلاف المركزي الثاني بين نتنياهو وغالانت، فيتعلق بملف الأسرى لدى المقاومة في غزة، وسبل إنهاء الحرب على الجبهات كافة، وضرورة تحديث الأهداف لها عبر اجراء مراجعة معمقة لها، في ظل قناعة غالانت والمؤسسة الأمنية بتحقيق الأهداف الموضوعة مسبقاً، واستنفاذ الخيار العسكري، بحيث باتت الساحة مهيأة الآن للعمل السياسي الدبلوماسي على الجبهتين. إضافة إلى تحديد أهداف واضحة ومحددة للمواجهة، والحرب المباشرة التي تمنتها وسعت إليها إسرائيل لعقود مع إيران، وهو ما لا يريده نتنياهو الأسير لحلفائه الأكثر تطرفاً، كما لتعقيد التقييم والحكم النهائي على الحرب ومآلاتها في الإعلام والشارع الإسرائيلي بشكل عام.
وبتفصيل أكثر ثمة تباينات وقراءات مختلفة تتعلق بالحرب على غزة، والخيار العسكري، واستنفاذ الأهداف الموضوعة، وعدم ممانعة الانسحاب من محور فيلادلفيا الذي لا أهمية عسكرية وأمنية له، والأمر نفسه وشيك الحدوث بلبنان -استنفاذ العمل العسكري- وهي مسألة أيام أو أسابيع قليلة، وبالتالي ضرورة البحث عن تسوية سياسية تنهي الحربين، بما في ذلك التوصل الى صفقة تبادل أسرى بأثمان صعبة ومؤلمة -حسب تعبير غالانت- بينما يرفض حلفاء نتنياهو الأكثر تطرّفاً، هذه المقاربة والسيرورةن كونها تعني إسقاط الحكومة، مع الانتباه إلى التداخل أو الخلط الواضح بين الحزبي والوطني هنا، حسب قناعة المؤسسة العسكرية الأمنية وقادتها.
في السياق، لا بد من الإشارة إلى البعد المتعلق بالمؤسسة العسكرية في إقالة غالانت الذي يتصرف كابن المؤسسة وممثل ومندوب لها داخل الحكومة، بينما يريد نتنياهو نهجاً مختلفاً لذلك، وضع محلل أو ذراع وقناع له فيها هو يسرائيل كاتس، بينما رفض وزير الخارجية الجديد جدعون ساعر، تولي وزارة الأمن، ضمن حسابات شخصية وفئوية أيضاً على المدى البعيد، ولعدم التورط بالقصة كلها وتحمل مسؤولية إقالة وزير في زمن الحرب، والانخراط ولو غير مباشرة في الصفقة ذات الرائحة الكريهة التي نفذها رئيس الحكومة.
وفي العموم، يسعى نتنياهو إلى الهيمنة على المؤسسة كلها، ويفكر بإقالة رئيسي الأركان والشاباك رغم إعلانهم تحمّل المسؤولية، ونيتهم الاستقالة ولو بعد نهاية الحرب، مع دعوتهم إلى تشكيل لجنة تحقيق رسمية بعدما قاما بإجراء تحقيقات داخل الأجهزة العسكرية والأمنية على طريقة مساعدة اللجنة الرسمية التي يرفضها نتنياهو، وربما يستقيل رئيس الموساد أيضاً، رغم أنه يبدو مهادناً وغير صدامي مع نتنياهو.
ثمة سبب مركزي آخر لإقالة نتنياهو لغالانت، ويتعلق بدعم بل تغطية وتسهيل الوزير المُقال، التحقيق في تجاوزات وفضائح مكتب رئيس الوزراء المتضمنة تسريب وتزوير وثائق سرية وحساسة، من أجل التأثير على السجال الجماهيري حول صفقة تبادل الأسرى والحرب على الجبهة الجنوبية، تحديداً غزة، التي تستمر حسب مصالح نتنياهو الشخصية والفئوية لا السياسية والعسكرية، وكما قال غالانت” حرفياً” أول أمس الجمعة في لقائه مع عائلات الأسرى لدى المقاومة بغزة.
ثمة تجاذب وخلاف عميق بين الجنرال غالانت ابن المؤسسة العسكرية، ورئيس الحكومة تنتياهو، حول المسؤولية وحتى الرواية والسردية الخاصة بعملية طوفان الأقصى في 7 تشرين أول/ أكتوبر 2023، وما تلاها، وتملص نتنياهو من المسؤولية، وإلقائها على عاتق المؤسسة الأمنية والعسكرية وقادتها.
ومن هنا يدعو غالانت إلى تشكيل لجنة تحقيق رسمية في تلك الأحداث وما قبلها وأثنائها، وبعدها، وهو أمر يزعج نتنياهو أيضاً لجهة تحميله المسؤولية كرئيس وزراء وصاحب القرار وواضع السياسات تجاه غزة والقضية الفلسطينية في العقد الأخير ،عن أكبر كارثة تحل بإسرائيل واليهود بعد المحرقة النازية في الحرب العالمية الثانية، منتصف القرن الماضي.
في الأخير، بتركيز واختصار وضمن سياق استراتيجي أشمل وأعمّ، يسعى نتنياهو إلى الهيمنة على المؤسسات والسلطات كلها، بما في ذلك مواصلة خطة الانقلاب القضائي، وبالتالي تحويل إسرائيل إلى دكتاتورية موصوفة، ما يسرّع وتيرة تفككها حسب قراءات إسرائيلية ودولية معتبرة، بالإشارة الى مركزية ديمقراطيتها التي منعت تفجر أزماتها وخلافاتها وحصدت دعم الغرب القوى والمتنفذ لها.
لا ينفصل عما سبق سعي نتنياهو الدؤوب لتصفية القضية الفلسطينية وتجاوزها والعودة لمعادلة سلام مقابل سلام، في تجاهل وتهرب من استخلاص العبر الصحيحة من الطوفان والحرب والتطورات في المنطقة والعالم، مع الاقتناع التام باستحالة تجاوز القضية أو تجاهلها عربياً وإقليمياً وحتى دولياً، بموازاة قضايا مفتوحة بتهم جرائم حرب ضد الدولة العبرية في محكمتي العدل والجنائية، وتقبل الرواية والاعتراف بالدولة الفلسطينية الذى وصل إلى عدد مقارب للدول التي تعترف بإسرائيل نفسها.