يحتلّ السيكولوجي حيزاً مهماً في حياة الفرد، بحيث تتخطى أهميته جانبها النفسي ليطال نواحيها كافة، ومنها السياسية، وسيما فيما يتعلّق بعلاقة المواطن مع الدولة، باعتبارها الأرضية الأساسية، التي يبنى عليها مفهوم المواطنية.
و بما أننا في صدد التعرّض إلى العلاقة شبه الغائبة، أو بالأحرى “المضطربة”، بين المواطن اللبناني ودولته، فتتبدى ضرورة مقاربتها، ولو بإيجاز غني قدر المستطاع، من زاوية “نفستحليلية”، ليصار إلى فهم أعمق لكيفية طبيعة العلاقة المذكورة، من خلال تناول مسألتين تتمثلان في غياب التماهي مع الدولة، والوهم الذي يغذيه الطائفي، خصوصاً في ظل الهوية الطائفية للنظام السياسي القائم في لبنان!….
و إذا ما تناولنا الأسباب التي تقف وراء اضطراب هذه العلاقة، يظهر “تقصير” الدولة من خلال ضعف مؤسساتها، مسؤولاً أساسياً عن “نفور” المواطن منها، إن صح التعبير، و مسبباً رئيسياً له. و لسنا هنا في موضع اتهام للدولة، التي وقعت ضحية للمافيات الدين – سياسية التي قبضت عليها، واستنزفتها خدمةً لبقاء نظام طائفي، يمعن في ضرب المواطنية والوطنية معاً، عبر الفساد الذي طال مؤسسات الدولة كافة، وبصورة خاصة التربوية.
تبقى الدولة المدنية والقوية بمؤسساتها وجيشها الوطني ضامنة للهوية الوطنية التي بتنا في حاجة إليها أكثر من أي وقت مضى!
وتدفعنا مقاربة هذه العلاقة بين اللبناني ودولته، إلى طرح مسألة غياب التماهي مع الدولة، أو حتى رفضه و إنكاره، و دور الوهم في التعويض عن الفراغ الكبير، الذي يتركه هذا الغياب.
في مؤلفه بعنوان “مستقبل وهم”، يعرّف سيغموند فرويد الوهم، على أنه معتقد يهدف إلى إشباع حاجة سيكولوجية معينة.
ومن هذا المنطلق، يمكن القول، أن الوهم يظهر في كل مرة يختبر الفرد معاناة. بتعبير أدق، يؤدي دور أوالية دفاعية، يستخدمها في سبيل حماية نفسه، من الشعور بالقلق والخسارة والخوف.
وبالعودة إلى غياب التماهي مع الدولة، فيظهر من خلال الواقع المعاش، الذي يظهر رفض الكثير من الشباب اللبناني، لمفهوم الدولة ومؤسساتها كافة، ومنها العسكرية!….و مما شكّ فيه، يعكس هذا الغياب انقطاعاً في الرابط الرمزي مع القيم، والتمثلات الجماعية التي تقوم بوضعها الدولة. و يجسّد عدم التمثل بالقوانين، ترجمة واضحة لهذا الرفض، وهو يشكل مسألة في بالغة الخطورة، تسهم في ضعف الاستقرار الاجتماعي.
وفي هذا السياق، يأتي الوهم ليشمل “ملجأً” نفسياً، إن صح التعبير، في مواجهة عدم التماهي مع الدولة. إذ يختبر الأفراد الذين يعجزون التماهي مع مفهوم الدولة، أو يرفضونه، فراغاً في الهوية نفسها، وانقطاعاً في التواصل مع الجماعة حيث يعيشون. و في هذه الحال، تتجلّى ردود أفعالهم في “الذهاب” إلى الأوهام، بهدف ملء هذا الفراغ أو الغياب ، مشكّلين بذلك “سيستامات” سياسية مناسبة لهم.
وتجد الإشارة، إلى أنه لا يعد تقصير الدولة سبباً وحيداً، يقف خلف “اهتراء” العلاقة بينها وبين المواطن. إذ يعمد الكثير من الافراد، إلى الابتعاد عن أي تماه مع الدولة، لأنهم يرون في ممارستها قمعاً. وهنا، يمكن أن يسهم الوهم ، كأوالية نفسية دفاعية، في حماية هوية هؤلاء ضد الدولة نفسها، التي يشعرون بتهديدها لهم.
إقرأ أيضاً: بلوط تحذر عبر «جنوبية» من تداعيات الحرب النفسية الجسدية على حياة الأطفال
ومن جانب آخر، يظهر البحث عن “مثال” الدولة، محدداً أساسياً لهروب الأفراد نحو الوهم. بمعنى أوضح، عندما تفشل الدولة في تجسيد القيم المثالية، التي يرنو الافراد إلى التماهي معها، يتسبب هذا الأمر باحباط حاد، و يخلق رغبة في البحث عن دولة “مثالية” قد لا تتحقق!….
و بدورها تظهر السوداوية أو الكآبة، نتيحة طبيعية لتأثير هشاشة الدولة، على الحياة النفسية لأفرادها و مزاجهم. و هي تنجم عن شعور هؤلاء، بخسارة اشياء مهمة و ضرورية، للاستقرار على المستويات كافة ومنها النفسي. وكأن الدولة ، في نظرهم، ابتعدت عن “مثاليتها”! … في هذه الحال، يؤدي الوهم دوره، كأداة للتعويض عن التعلق بهذا المثال الضائع.
بدلاً من أن تشكل الدولة الموضوع الأساس لتماهي مواطنيها يحل مكانها الطائفي!…و ينتج عن ذلك أنا أعلى تشكّله كل طائفة بما يتناسب مع هويتها
وبالعودة إلى الواقع اللبناني، وفيما يتعلق بغياب التماهي مع الدولة، فيتبدى الطائفي المأوى، الذي يلجأ إليه اللبناني لإشباع هذه الحاجة، إلى وجود بنية تؤمن له الشعور بالانتماء المفقود، في ظل الدولة الضعيفة. وفي هذه الحال، يؤدي الطائفي دور البديل النفسي، الذي أتينا على ذكره. عندما تضعف الدولة أو تغيب، يولد فراغ بحيث يفتقد الأفراد إلى “إحداثية” دولة يتماهون معها. وهنا يمكن القول أن المافيات الدين-سياسية القابضة على الدولة، تعمّدت ضرب الدولة من خلال مؤسساتها، التي تكاثرت على حساب مؤسسات الدولة، بهدف مصالح أربابها، سواء في الخارج أو الداخل.
أطبق القابضون على السلطة في لبنان على المواطنية و الوطنية وتعمّدوا إضعاف التنشئة الوطنية عبر إضعاف مؤسسات الدولة وسيما التربوية
و بدلاً من أن تشكل الدولة الموضوع الأساس لتماهي مواطنيها ، يحل مكانها الطائفي!…و ينتج عن ذلك، أنا أعلى، تشكّله كل طائفة بما يتناسب مع هويتها، من خلال فرض قيم و ممنوعات خاصة توجه سلوكيات أفرادها. ويصبح هذا الأنا الأعلى الطائفي، أكثر تأثيراً من القوانين المدنية أو القيم الوطنية. مما يعزز الولاء الأولي للجماعة الدينية، على حساب الولاء الوطني…
لقد أطبق القابضون على السلطة في لبنان على المواطنية و الوطنية، وتعمّدوا إضعاف التنشئة الوطنية، عبر إضعاف مؤسسات الدولة ، وسيما التربوية . فافتقرت أجيال كثيرة إلى الولاء الوطني. وما استهتارها بمفهوم الدولة، إلا انعكاس لحالة تخلف اجتماعي و سياسي و ثقافي وتربوي ووطني!…
في النهاية، تبقى الدولة المدنية والقوية، بمؤسساتها وجيشها الوطني، ضامنة للهوية الوطنية، التي بتنا في حاجة إليها أكثر من أي وقت مضى!….