رفض الخليفة الرابع علي ابن أبي طالب، الاحتكام إلى “كتاب الله”، لفض النزاع بينه وبين من انشق عليه في جيشه، الذين سموا لاحقاً بالخوارج. أساس رفض علي، هو أن القرآن لا ينطق بذاته، أي لا يحمل بداخله حلاً لمسألة سياسية مخصوصة، ولا يوفر الموقف الفصل تجاه قضية حكم أو تدبير. هو بحسب علي، حمَّال أوجه، أي عرضة للاستعمال الجيد والرديء، الطيب والخبيث. بالتالي، وبدلاً من أن يكون الموقف أو الرأي السياسي مؤيداً أو مطابقاً لما يقوله النص القرآني، فإن هذا النص يكون مسخراً لتأييد الموقف السياسي، ما يجعل القرآن في موقع التابع لا المتبوع، المحكوم لا الحاكم، الأمر الذي يفقد النص استقلاليته وذاتيته، لتكون آياته غب الطلب السياسي والسلطوي والمذهبي والغرائزي.
أراد علي إخراج السياسة من وصاية النص الديني، لتكون فعلاً بشرياً توجهه ضرورات العقل، وتراكم التجربة. وأراد أيضاً إخراج النص القرآني، من دائرة السياسة وتحكماتها، كي لا تُفرض معاني القرآن وأحكامه من خارج نصوصه
أراد علي إخراج السياسة من وصاية النص الديني، لتكون فعلاً بشرياً توجهه ضرورات العقل، وتراكم التجربة. وأراد أيضاً إخراج النص القرآني، من دائرة السياسة وتحكماتها، كي لا تُفرض معاني القرآن وأحكامه من خارج نصوصه. بالتالي عمد إلى تحييد القرآن عن حلبة السياسة، وأرجع حقيقة السياسة إلى العقل البشري، والتدبير الإنساني الذي يخطيء ويصيب. بالتالي رفع الغطاء الديني عن الفعل السياسي، فلا تعود آية تصلح مصدراً كافياً لشرعنة أي مشروع سياسي، ولا يعود بإمكان أي موقف سياسي، ادعاء التطابق مع مدلول أو معنى آية قرآنية.
إقرأ أيضا: بركات: حوّروا كلامي ليبنوا دعوى… أنا المُدّعي وهم المُتُّهَمُون
جسدت تجربة علي والخوارج، لحظة المواجهة المباشرة الأولى، في التاريخ الإسلامي بين الفعل السياسي من جهة، ومرجعية الوحي الممثل بالقرآن من جهة أخرى. أراد علي الفصل بينهما، بإخراج أحدهما من الآخر، وتحديد حقيقة مغايرة لكل منهما عن الآخر، بأن يكون الفعل السياسي فعلا، محكوما لاعتبارات العقل، ويكون الوحي بمثابة الأرضية الخلقية للسلوك الإنساني، بنحو كلي لا جزئي. بالمقابل أراد الخوارج تحويل الفعل السياسي فعلاً تعبدياً، وصيرورته حقيقة دينية خالصة. هي وضعية تكرر نفسها عند كل أزمة حكم، أو انسداد أفق وحالات وهن وضعف، تتعالى فيها دعوات تعطيل العقل وإقالته من نشاطه، وإلغاء مرجعيته في مجال الحكم والتدبير العام، واللجوء إلى الدين، كوسيلة تعويض نفسي وحاجة أمان وجودي.
لا نبالغ القول، أن حركات الإسلام السياسي التي ظهرت في القرن العشرين، هي تكرار جلي لتلك المواجهة، التي انفجرت زمن علي، بين النص القرآني كوحي، والفعل السياسي كنشاط إنساني
لا نبالغ القول، أن حركات الإسلام السياسي التي ظهرت في القرن العشرين، هي تكرار جلي لتلك المواجهة، التي انفجرت زمن علي، بين النص القرآني كوحي، والفعل السياسي كنشاط إنساني. قد تختلف هذه الحركات في برامجها ومضامينها، لكنها تتفق جميعها في إقالة العقل من الحياة السياسية، ونزع الشرعية عن الإرادة الإنسانية، أي عدم الاعتراف بالحرية الإنسانية، عنصراً جوهريا في أي حكم أو سلطة أو قرار. معتبرة النص الديني معياراً لكل سلوك سياسي، وأساس كل شرعية سياسية، ومرجعية لكل أنماط الحكم وسلطة الأمر. هي صياغات متخمة بالاستعمال الفوضوي للمفاهيم السياسية، وتلاعب غير بريء بدلالة الآيات القرآنية، وتوجيهها توجيها مصطنعا وتعسفياً، باتجاه تأسيس أيديولوجية حاكمية الله.
الإستعمال المكثف للآيات القرآنية، في كل خطاب أو بيان، أو تسويغ لفعل أو قرار، ولد مع الزمن شعوراً بالمماهاة، بين نشاط هذه الحركات والوحي، أي تطابقاً بين أهداف ونضالات الحركات الإسلامية من جهة، ومقصد الله ومراده من جهة أخرى. بالتالي نشأت أحاسيس القداسة والسمو داخل هذه الجماعات، وتعزز الادعاء لدى أفرادها بأنها تقوم بمهمة إلهية، موكل إليها بتحقيق مراد الله، وترسخ الاعتقاد بأنها جماعات مصطفاة ومعصومة، فوق أن تخطىء أو تحاسب أو تذنب.
معضلة الإسلام السياسي الحديث والمعاصر، ليست في دعوته إلى استعادة الأصول المنسية، بقدر ما هي مؤشر، على محنة عقل ضاربة في صميم الواقع، وهي في الوقت نفسه، معركة العقل في استعادة زمام المبادرة، لتأكيد سيادته الحصرية في الفضاء العام
كانت حصيلة هذا التماهي المصطنع والادعاء المزيف:
إقحام الآيات القرآنية، في صراعات وجدالات سياسية تفصيلية واصطفافات عبثية، أخرجت القرآن عن وظيفته ومغزاه وشوهت سياقاته، بحيث بات غب الطلب، لتأييد موقف شخصي وإسناد نشاط فردي، والبت في قرار حزبي أو تنظيمي.
نشوء نرجسية مَرَضية انتشرت بين أفراد هذه الجماعات، بأنها على حق وغيرها على باطل، وأنها مؤيدة بإمدادات الغيب، لأنها تنصر الله ورسوله. هذا تسبب بتولد مسلكية عداء حادة، تجاه كل مختلف أو معارض أو مخالف. فالحقيقة عند هؤلاء ذات طابع آحادي، والعالم مؤلف من فسطاطي حق وباطل، أو معسكري كفر وإيمان، أو انقسام عامودي بين خط حسيني وخط يزيدي. هذا يفسر السهولة في إهدار الدماء، وممارسة شتى أنواع القتل المعنوي والجسدي، بحكم أن المختلف والمغاير خائن أو مرتد أو محارب لله ورسوله، ما يجعله فاقداً الشروط الشرعية والقانونية، التي تستوجب حفظ دمائه وصيانة حقوقه.
تحول السياسة عند هؤلاء، من مجرد مجال تنافسي على السلطة، إلى معركة عقائدية لإحقاق الحق، وتحول المجتمع، من إطار تضامني قائم على هوية جامعة، إلى ساحة صراع ومواجهة بين نهج هدى ونهج ضلال، رابطة إيمان واحدة وملل كفر متعددة. بالتالي فإن الأساس في السياسة، هو الغلبة والهيمنة لا تداول السلطة، والمدار العميق في الانتخابات هو البيعة والتسليم، لا التمثيل المشروط، والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، هو التمجيد والولاء المطلق لا المحاسبة والنقد.
انفصام أطروحات الإسلام السياسي عن الواقع الفعلي، وانشدادها إلى ماض متخيل أو عالم مصطنع. هذه الرؤى لم تكن ثمرة تشخيص أزمات الواقع واقتراح معالجات وآليات للنهوض بهذا الواقع. فالغرض لم يكن يوما تحسين الواقع وتطويره، وإنما تقويضه واستبداله بواقع بديل.
نشوء نرجسية مَرَضية انتشرت بين أفراد هذه الجماعات، بأنها على حق وغيرها على باطل، وأنها مؤيدة بإمدادات الغيب، لأنها تنصر الله ورسوله. هذا تسبب بتولد مسلكية عداء حادة، تجاه كل مختلف أو معارض أو مخالف
هذه المؤشرات مجتمعة، تجعل الإسلام السياسي الحديث والمعاصر، في رؤاه وخطابه ومواقفه، وليد أزمات وحالات انسداد ووضعيات وهن وتشتت، استدعت الاستعانة بالغيب، للتعويض على واقع مأزوم ومتهاو. لكنها حين فعلت ذلك، لم تعمد إلى تحسين شروط الواقع أو تطويره، وإنما عمدت إلى إدانته، وسعت إلى الانتقام منه بتحطيمه وتقويضه، واستبداله ببدائل هي أقرب إلى هلوسات فكرية وتأويلات تعسفية للنصوص الدينية، تسببت الدعوة إلى تطبيقها، بسلسلة كوارث وويلات كبرى، على المجتمعات العربية والإسلامية، الأمر الذي عمق من أزمات الواقع العربي وزادها تعقيداً.
معضلة الإسلام السياسي الحديث والمعاصر، ليست في دعوته إلى استعادة الأصول المنسية، بقدر ما هي مؤشر، على محنة عقل ضاربة في صميم الواقع، وهي في الوقت نفسه، معركة العقل في استعادة زمام المبادرة، لتأكيد سيادته الحصرية في الفضاء العام.
إقرأ أيضا: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: السياسة موجب عقلي أم ديني؟