تشن إسرائيل على لبنان حربا مدمرة، وبلا سقف، مستهدفة بشكل خاص الجغرافيا الشيعية، بما ومن عليها، وتحديدا كل من يمكن ان يشكل حاضنا ل”حزب الله” ومشروعه، بعدما عمد الأخير نتيجة حسابات، اما خاطئة او إيرانية، للانخراط في حرب غزة من دون ان يسمن (هذا الانخراط) او يغني من جوع وقتل وتدمير واحتلال، لم يقتصر على غزة بل وصل الى لبنان.
شكل اغتيال الأمين العام السابق للحزب السيد حسن نصرالله ذروة الاغتيالات الجماعية – ان صح التعبير – لقيادات “حزب الله” الميدانية والعسكرية من طائفة المؤسسين الاوائل، وارخت لانتهاء ١٠ أيام عاصفة بدأت مع تفجيرات “البايجرز” بعيد انتصاف أيلول ٢٠٢٤.
مهد كل ذلك الأرض، للانتقال الى الاجتياح البري، الذي ما زال مستمرا الى الآن ويتخذ ابعادا جديدة يوما بعد يوم.
واذا كانت طريقة تطور العدوان الإسرائيلي، جعلت الاجتياح البري والتدمير متوقعا، مع فشل كل مبادرات وقف اطلاق النار على الجبهة اللبنانية، فإنه من غير المفهوم لبنانيا، عدم تغير خطاب “حزب الله” ومواقفه من الحرب، على الرغم من التغيرات الهائلة التي اصابته كتنظيم، والتي تصيب لبنان واللبنانيين عامة، والطائفة الشيعية بشكل خاص.
الحزب اصر على الاستمرار في حرب عبثية تماما، ولا مبررات لبنانية لها
قرر “حزب الله” منفردا، وتعبيرا عن مصالح إيرانية خالصة، فتح “جبهة اسناد” من لبنان، وعلى الرغم من ان تطور الاحداث، اثبت ان هذه الجبهة تجلب الويلات على لبنان وشعبه، من دون ان تغير اي شيء في مصير غزة وعذابات أهلها، وقتلهم الوحشي من جانب عدو اختبرناه طويلا، فإن الحزب اصر على الاستمرار في حرب عبثية تماما، ولا مبررات لبنانية لها. حرب تكاد تقضي على كل استثمارات الأمنية والعسكرية في لبنان.
لكن، حتى مع اغتيال نصرالله وخليفته المحتمل، والقضاء على المجلس الجهادي والقيادات الميدانية المخضرمة، وتهجير الجنوبيين، يستمر “حزب الله” في انتهاج اللامنطق نفسه من المعاندة والمكابرة، وكأن شيئا لم يحصل.
يطرح هذا السلوك علامات استفهام كثيرة، في ما اذا كان ما يحصل، يعبر حقا عن توجه ناس الحزب بل وحتى مقاتليه، وكذلك الشيعة المتعاطفين معه، ام انه استمرار لتسخير حياة اللبنانيين وممتلكاتهم وبلادهم – بما في ذلك طبعا “الفرقة الولائية” عند شيعة لبنان، من اجل مصالح ايران ومفاوضاتها.
يتبدى مع الوقت ان اهداف العدو الإسرائيلي تتعدى تنفيذ ال ١٧٠١
في الحقيقة، يتبدى مع الوقت ان اهداف العدو الإسرائيلي تتعدى تنفيذ ال ١٧٠١، او احتلال مؤقت لتحقيق اهداف عسكرية وترتيبات امنية فقط، بما في ذلك فرض Buffer Zone.
تخطى العدوان الإسرائيلي التفوق العسكري والأمني وبات يركز على:
١- تدمير الحواضر الشيعية في لبنان
تحديدا المدن والتجمعات السكانية والاقتصادية الكبرى مثل ميس الجبل، وبنت جبيل، والخيام، وصور والنبطية وبعلبك والهرمل وغيرها.
لطالما شكلت هذه المدن، مراكز ثقل للوجود الشيعي في لبنان على كل الصعد، ونراها الآن تمحى او تدمر، بشكل قد يعيد تشكيل دورها واهميتها، اذا ترافق هذا التدمير مع عدم عودة سكانها اليها. ان ذلك في حقيقة الامر، يتعدى إعادة تشكيل الامتداد الجغرافي للديموغرافيا الشيعية في لبنان، الى إعادة تشكيل الديموغرافيا اللبنانية، وامتداداتها وتداخلاتها المذهبية، بطريقة يمكن ان تؤدي الى فوضى أهلية، تمهد لحرب أهلية اذا توافر قرار دولي – إقليمي لدعمها.
والنظر الى لبنان، كنظام تمثيلي للطوائف واحزابها الحاكمة – من دون ان تختصر كل الحركات والحراكات الطائفية الفعلية- يمكننا من فهم مرارة ان يفقد الشيعة في ١٠ أيام، رمزهم الأوحد أي نصرالله، وقيادتهم العسكرية التي لطالما اطمأنوا الى انها ستحميهم وترعب العدو الإسرائيلي، ويتشرد قسم وازن، ممن تهجروا في الشوارع ومراكز إيواء، ضمن بيئات حولها “حزب الله” بسبب ما راكم من سياسات وتدخلات عسكرية – ابرزها في سوريا- الى بيئات متوجسة في اقل تقدير.
٢- انهاء البنية التحتية والفوقية العسكرية والأمنية
لا شك في ان الضربات التي تلقاها “حزب الله”، على مستوى الخسائر في القدرات البشرية والعسكرية، مضافا اليها غياب أي قرار إيراني وتفوق إسرائيلي، حد من استخدام الصواريخ طويلة المدى، جعل المقاتل مكشوفا.
يقومون هو دفاع آلي Auto Pilot Defense من دون أي هجمات معاكسة
يقاتل عناصر “حزب الله” بشراسة جنوبا. لقد تدربوا على ذلك وتحضروا لشهادة يؤمنون بها، بآفضل ما يمكن من الدعم الايراني والتسليح. ما يقومون به حاليا هو تنفيذ ما تدربوا عليه، وفق خطط وضعها من رحلوا من القادة. لكن، ما يقومون هو دفاع آلي Auto Pilot Defense من دون أي هجمات معاكسة لاسترداد مواقع تمت خسارتها.
يقاتلون تحت سماء مكشوفة، وارض خالية من الامدادات، لكن استبسال هؤلاء المقاتلين لا يخدم أي تفاوض او هدف سياسي، يسعون في قرارة نفسهم اليه: طرد المحتل وعودة الجنوبيين الى قراهم وبيوتهم.
لماذا يقاتل الانسان اذا خسر الملهم وتم تجريده من أي اهداف واقعية؟
لا يمكن تخيل ما يحصل، الا خدمة لاجندة إيرانية، منعت أي تأقلم من قبل الحزب في لبنان مع الضربات التي تلقاها، حتى لو كان تأقلما على سبيل التقية.
يخسر الشيعة حاليا حواضرهم المدينية في لبنان، وبالتالي إمكانية العودة وإعادة البناء العمراني والفكري. وهذا يطرح على بساط البحث اهميتهم ودورهم، ليس في لبنان فقط بل وفي المنطقة، ليس من منطلق “تصدير الثورة”، ونشر الخراب على الطريقة الايرانية بل حضاريا وفقهيا.
يخسر الشيعة حاليا حواضرهم المدينية في لبنان، وبالتالي إمكانية العودة وإعادة البناء العمراني والفكري
فلمصلحة من يرسل “الولائيون” شيعة لبنان، من مدنيين ومقاتلين وحواضر مدينية، الى الموت والدمار؟
يمضي “حزب الله” في المكابرة، التي كانت تمارس ضد اللبنانيين، وصارت الآن تمارس ضد الشيعة انفسهم، حتى يتعلق الامر بتنفيذ مصالح الولي الفقيه.
هل وقف هذا التشظي الشيعي واللبناني ممكن؟
بكل تأكيد، اذا فهمنا التحديات الوجودية، وصار النصر يقاس، بالقدرة على إعادة الناس الى بيوتهم وقراهم المترامية، حتى آخر حبة رمل على الحدود.