بعد عام على الحرب، تمكنت إسرائيل في اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس يحيى السنوار. هذا “النجاح التكتيكي” والمتأخر، وعلى أهميته، لن ينهي حماس كحركة، ولا القضية الفلسطينية العادلة والمحقة، وبالتأكيد لن يوقف النضال الفلسطيني العنيد والمستمر منذ قرن تقريباً، في مواجهة آخر احتلال في العصر الحديث.
إذن، نجحت إسرائيل بعد عام تقريباً على حربها ضد غزة، بالوصول إلى يحيى السنوار واغتياله بالصدفة البحتة في منزل لا نفق أرضي، بحي تل السلطان، غرب مدينة رفح، في أقصى جنوب قطاع غزة، بينما قاتل الرجل كما رفاقه المقاومين بطول وعرض القطاع، من رفح جنوباً إلى جباليا شمالاً، حتى الرصاصة الأخيرة والرمق الأخير، غير أن الفرق الهائل في موازين القوى – العصا مقابل الدرون والكلاشينكوف مقابل المدفع الرشاش، وبندقية القنص مقابل الصاروخ، والقنابل اليدوية مقابل الدبابات مع سيطرة تامة للطائرات على الأجواء – حسم المعركة الصغيرة والتكتيكية على أهميتها ورمزيتها، لصالح الاحتلال، كما مكّنه من السيطرة على غزة بشكل عام/ لكن دون أن ينجح بحسم الحرب في معناها الواسع والتاريخي، والتي لن تنتهي طالما استمرت إسرائيل في التمسك بالخيار العسكري، وقاعدة أن ما لم يتحقق بالقوة يتحقق بالمزيد منها، وتجاهل الجذر والأصل السياسي للقضية والمطالب المحقة والمشروعة للشعب الفلسطيني.
اقرأ أيضاً: 7 أكتوبر 2024.. ضرورة استخلاص العبر فلسطينياً وعربياً ودوليا
في السياق نفسه، لا بد من التأكيد أن هذه العملية التكتيكية المتأخرة لإسرائيل لم ولن تنهي القضية، حيث قتلت إسرائيل عبر قرن من الصراع، العشرات وحتى المئات والآلاف من القادة، وعشرات الآلاف من المواطنين الفلسطينيين، واعتقلت مئات آلاف آخرين، دون أن تحسم الوضع لصالحها حرباً ولا سلماً، أو تنجح في إزالة القضية عن جدول الأعمال العربي والإقليمي والدولي، وبالتأكيد لا شعبياً أيضاً.
هذا على الصعيد الوطني العام، أما فيما يخص البعد الحزبي، فلن ينهي الاغتيال، حماس كحركة، ورغم هيمنة السنوار على القرار العام للحركة وتوجهاتها، وهو ما لم يحدث في تاريخ الحركة منذ تأسيسها قبل نصف قرن تقريباً، وفقدانها قادتها ورموزها والجيل المؤسس كله تقريباً – الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وصلاح شحادة وإبراهيم المقادمة وإسماعيل أبو شنب وسعيد صيام، لكن دون أن تنتهي أو تندثر وتزول من المشهد السياسي والحزبي الفلسطيني لا في غزة ولا في الضفة ولا في الشتات، حتى مع الاقتناع باستحالة استمرارها في السلطة وحكم غزة في اليوم التالي للحرب، وهو الأمر الذي يفترض أن يتم بالتوافق وضمن أفق سياسي وأجندة وطنية فلسطينية، تقطع وتتناقض جوهرياً مع إرادة أو تصورات وخطط الاحتلال للسيطرة على غزة و إبقاء الانقسام مع الضفة، وبالحد الأدنى إبقائها مدمرة معزولة وإبعادها عن فلسطين جنوباً، نحو مصر.
في السياق الحزبي، لا بد من الإشارة إلى عدم استعجال حمساوي في اختيار بديل للسنوار، مع تفضيل التريث خاصة إثر فقدان قائدين لها خلال شهرين ونصف تقريباً، علماً أن ثمة هيئة أو لجنة إدارية تدير الوضع التنظيمي وتضم رئيس مجلس الشورى أو برلمان الحركة محمد درويش، ومسؤولي المناطق التنظيمية الثلاث في الخارج وغزة والضفة – خالد مشعل وخليل الحية وزاهر جبارين على التربيب- بموازاة مناقشة إمكانية عدم الإعلان عن رئيس المكتب السياسي القادم في حالة اختياره حالياً، وتفضيل انتظار الدورة الانتخابية العادية للحركة المفترض إجرائها في الثلث الأول من العام 2025.
في بعد آخر، وفيما يخص صفقة الهدنة وتبادل الأسرى على طريق وقف الحرب بشكل عام في غزة، فلا تغيير في موقف حماس المتمسكة بوثيقة الرئيس جو بايدن الصادرة في 31 أيار/ مايو الماضي – وقرار مجلس الأمن منتصف حزيران/يونيو، بينما وعلى عادتها تبدو إسرائيل ماضية في طريق العسكرة، وساعية لمواصلة الحرب حتى تحقيق الأهداف المستحيلة، مع تضحية ضمنية بملف الأسرى الذي لم يعد مركزياً على أجندة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وحكومته المتطرفة، منذ ثلاثة شهور تقريباً، مع طرحه وثيقة الدم بالشروط الثلاثة: البقاء في محور فيلادلفيا وممر نتسريم و التضييق على عودة النازحين للشمال، مع العمل على تفريغه أصلاً من سكانه، ودفن وثيقة بايدن وشن العملية العسكرية بمخيمات شمال الضفة أوائل أيلول/سبتمبر، على طريق الانتقال لإعلان الحرب رسمياً على لبنان منتصف الشهر نفسه، وإعلان غزة نفسها الأسبوع الماضي، كجبهة قتال ثانوية، بمعنى أن استمرار الحرب فيها ولو بوتيرة منخفضة لم يعد يؤرق تل أبيب حتى مع تداعياتها الاستراتيجية الهائلة متعددة المستويات على الدولة العبرية.
في الأخير، وباختصار، فإن نجاح إسرائيل باغتيال السنوار وقادة آخرين من حماس والمقاومة، وحتى إعادة احتلال قطاع غزة بالكامل، لن يجلب لها الأمن والسلام في مواجهة مليوني فلسطيني في القطاع، وثلاثة ملايين في الضفة الغربية، ومليون وربع في الأراضي المحتلة عام 1948، وعدد مماثل تقريبا – ستة ملايين – في الخارج. وكما العادة لا بد من استخلاص العبر المناسبة حزبياً وفلسطينياً لجهة رصّ الصفوف، والتوافق على استراتيجية وطنية موحدة لإنهاء الحرب والانقسام، وإعادة اعمار غزة ضمن أفق ساسي واضح وجدي نحو الدولة الفلسطينية، بينما تبدو إسرائيل مضطرة كذلك للتوقف ومراجعة نفسها والاقتناع بأن ما لم يتحقق بالاغتيالات، لن يتحقق بالمزيد منها، واستحالة إنهاء الحرب والصراع وفق أجندتها الدموية والمتطرفة. أماً دوليا، فلا بد من الانتباه لحقيقة أن الصراع لم يبداً مع حماس والسنوار، وإنما قبل ذلك بعقود طويلة، واليوم التالي للحرب لا بد أن يكون وفق الشرعية الدولية وقراراتها، وعبر دعم الاستراتيجية الموحدة التي يتوافق عليها أصحاب القضية أنفسهم.