بدأت الدولة اللبنانية ببذل الجهود لتحسين أوضاع مواطنيها من الشيعة في الجنوب، منذ تولي الرئيس فؤاد شهاب رئاسة الدولة عام 1958، وذلك بإعطائهم فرصاً أفضل في التعليم والتوظيف في الحكومة والجيش. وبدأ ياسر عرفات في السبعينات، من خلال الأموال التي كانت تتدفق عليه من الدول العربية، حضهم على الانضمام إلى النضال الفلسطيني، او على الأقل إلى تقبل انتشار قوات «فتح» في قرى قريبة من قرى شيعية.
وبعد أن تأسست حركة أمل تحت اسم «حركة المحرومين»، على يد موسى الصدر، عام 1974، تمكنت من تنشئة هوية شيعية مستقلة عن الولاءات للعائلات الشيعية التقليدية، ومستقلة عن الانتماءات إلى التنظيمات السياسية اليسارية والقومية، مثل الحزب الشيوعي، وحزب البعث، وحركة القوميين العرب، والتنظيمات الفلسطينية. وقد أنشأت أمل جناحاً عسكرياً لها عام 1975. وبعد انتشار الجيش السوري في لبنان بتفويض عربي ودولي عام 1976، تطورت علاقة تحالف بين الجيش السوري وحركة أمل. وقد ساعد في تقوية هذا التحالف تدهور العلاقة بين التنظيمات الفلسطينية بشكل عام، والنظام السوري. كان هذا في وقت لم تندلع فيه الثورة الإيرانية، ولم يتأسس «حزب الله» بعد. لكن كانت هناك علاقة بين مؤسسي حركة أمل: موسى الصدر وحسين الحسيني بشخصيات دينية وسياسية إيرانية معارضة لنظام الشاه، مثل الدكتور مصطفى شمران، الذي شغل منصبا قياديا في الحركة قبل الثورة الإيرانية 1979، كما شغل منصب وزير الدفاع الإيراني بعد الثورة. وكان من الممكن أن تستحوذ إيران على حركة أمل، لكنها لم تستطع أن تنافس حافظ الأسد، الذي هيمن على لبنان، خاصة بعد خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان بعد الغزو الإسرائيلي عام 1982.
هناك الكثير الذي نحتاج إلى أن نتعلمه كعرب وإيرانيين من الفكر والعلوم في الشرق والغرب فالفجوة العلمية بيننا وبين اسرائيل هي أكبر من الفجوة العسكرية
لذا كان على إيران أن تؤسس «حزب الله»، بعد حوالي ثلاث سنوات من نجاح الثورة الإيرانية. ومنذ البداية، نظر حافظ الأسد بالشك في النوايا الإيرانية، واعتبره تحدياً لإرادة النظام السوري بالهيمنة على الشيعة في لبنان. لكنه في النهاية سمح الأسد لعناصر من الحرس الثوري بالدخول إلى سهل البقاع اللبناني عام 1982 لتأسيس نواة تنظيم عسكري وسياسي أطلق عليه «حزب الله». وكان ذلك بعد فترة وجيزة من طرد المقاومة الفلسطينية من جنوب لبنان.
وفي بحث نشره مهند الحاج علي، على موقع Carnegieendowment.org، تحت عنوان: «أي علاقات أمس واليوم بين حزب الله وسوريا»، بتاريخ 7/5/2019، يذكر فيه أن نعيم قاسم – نائب أمين الحزب حالياً – وصف الجهود الإيرانية آنذاك بأنها «أنشأت معسكرات لتدريب الراغبين بذلك، واكتشف الناس نموذجاً راقياً في التربية والإعداد والأخلاقية والإيمان». وقد انعكس هذا السلوك الأخلاقي في موقف الحزب من حرب المخيمات بين حركة أمل وتنظيم فتح. فقد انحاز «حزب الله» للحق وساعد الفلسطينيين، الذين حاصرتهم حركة أمل في مخيماتهم عام 1985.
هذا وتدهورت العلاقة كثيرا بين النظام السوري والحزب عام 1986، عندما اندلع القتال بينهما في غرب بيروت. وفي شباط فبراير 1987، قتلت القوات السورية ما يقارب الثمانين من مقاتلي «حزب الله» بما يشبه الإعدامات، حيث إن من قتلوا من «حزب الله» لم يشاركوا في قتال ضد القوات السورية. وأذكر شخصيا ما نقل بالصحافة أن القوات السورية نقلت جثامينهم بسيارات لوري إلى مقر «حزب الله». وقد وصف صبحي الطفيلي – أمين عام «حزب الله» آنذاك – سلوك النظام السوري بالوحشي، وأن سوريا كانت تتآمر مع إسرائيل. ولم يتوقف الصراع بين النظام السوري وحركة أمل من جهة و«حزب الله» من جهة اخرى، إلا في نوفمبر 1990، بعد أن توصلت سوريا وإيران إلى اتفاق حول ذلك.
هذا وانهارت الصورة المثالية للحزب وأفراده في ذاكرة الشعوب العربية، بعد أن انحاز لنظام قمعي دكتاتوري طائفي في سوريا. هذا وإن كان هناك تعاطف وإجماع على دعم «حزب الله» في حربه مع إسرائيل عام 2006، فإن التعاطف انحسر كثيرا بعد ان انجر الحزب لدعم نظام الأسد منذ عام 2011. لذا عندما حاولت أن أقيس مدى الدعم الشعبي لـ«حزب الله» في العالم العربي مقارنة بالدعم، الذي حصل عليه عام 2006، طرحت التساؤل التالي عبر منصة X:
إقرأ أيضاً: إبادة اسرائيلية شاملة للبشر والحجر من الجنوب الى البقاع..و«الحزب» يُواصل «التعتيم» على مصير صفي الدين!
«وجد العرب أنفسهم في مأزق عاطفي وأخلاقي في تحديد موقف من الحرب الدائرة بين (حزب الله) وإسرائيل. فهناك تعاطف مع أهل الجنوب اللبناني، لكن العربي في مأزق عاطفي وأخلاقي في تحديد موقفه من هذه الحرب، بسبب الدور الذي لعبه (حزب الله) في دعم نظام ظالم في سوريا». فهل تتفق مع هذا الرأي؟
وقد أجاب %77 بأنهم يتفقون مع هذا الرأي، بينما عارضه %23. هذا وفي الوقت الذي نتعاطف ونحث العرب والإنسانية على تقديم الدعم المادي والمعنوي لأهالي الضاحية وقرى ومدن وبلدات الجنوب اللبناني، التي تتعرض لعدوان إسرائيلي حالياً، فإني أشارك الصديق الأستاذ جهاد الزين، الكاتب في «النهار» اللبنانية، في عواطفه وتوجهاته برفض أن يتحول أهالي الجنوب وقوداً لحرب حضّرت لها إيران لأسباب جيوسياسية. فقرار الدخول أو عدم الدخول في حرب يجب ألا يختاره تنظيم أو طائفة أو حزب، إنما هذا قرار استراتيجي يتعلق بمستقبل ملايين اللبنانيين في الداخل والخارج. ولابد من الإشارة إلى أن الأستاذ جهاد الزين هو حفيد أحمد عارف الزين (1884 ــ 1960) من بلدة جبشيت في جبل عامل، وكان صحافيا ومناضلا، وقد أصدر «مجلة العرفان»، ونشط في القضايا الوطنية خلال الحكم العثماني للبنان، وكان يجيد اللغات التركية والفارسية والإنكليزية. وفي خطاب مفتوح للمرشد الإيراني على خامنئي، نشره الصديق جهاد في «النهار» اللبنانية قبل هذه الحرب الأخيرة بأيام، تحت عنوان «رسالة إلى السيد خامنئي: لا يريد اللبنانيون الحرب فلا تفرضوها عليهم»، اقتبس التالي: «أبدأ رسالتي بتعزية نفسي وتعزية اللبنانيين وتعزيتكم بالثمانين شابا، الذين قطفت أعمارهم الفتية خلال المناوشات بين مؤيديكم وبين الجيش الإسرائيلي. المناوشات التي كنا بغنى عنها، والتي حصلت تحت شعار مساندة حركة حماس خلال حرب غزة، التي شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي بشكل همجي. أسمح لنفسي سماحة السيد بأن أقول إن اللبنانيين بأكثريتهم الساحقة من سنة وشيعة ودروز ومسيحيين، كل المسيحيين والدروز ومعظم السنة، وعدد كبير من الشيعة، يريدون أن يدعموا الفلسطينيين، ولكن ليس عسكرياً. تماماً مثل أشقائهم في مصر والأردن وبقية العالم العربي وإيران. الدعم المدني السلمي الإعلامي الثقافي والإنساني والسياسي طبعاً. فلماذا فرضتم على اللبنانيين وحدهم تورطاً عسكرياً يذهب بمئات الشباب والرجال والنساء والأطفال».
إن كان هناك تعاطف وإجماع على دعم «حزب الله» في حربه مع إسرائيل عام 2006 فإن التعاطف انحسر كثيرا بعد ان انجر الحزب لدعم نظام الأسد منذ عام 2011
ويختتم الأستاذ جهاد الزين رسالته إلى السيد خامنئي بالتالي: «سماحة السيد خامنئي: اسمح لي بأن أذكرك أني من جيل نشأ وعيه السياسي على الالتزام بالقضية الفلسطينية، وهو جيل متعدد التجارب منذ نهاية الستينات من القرن الماضي. ولكنه جيل اختبر بمرارة سقوط الدولة اللبنانية خلال الفترة 1975 ــ 1990، وعانى الكثير، كونه لم يعد محمياً بدولته الوطنية. أليس هذا هو جوهر القضية الفلسطينية؟ فلماذا نسمح للبعض في لبنان بأن يعيدنا إلى اللادولة؟ وأنتم يا سماحة السيد ولو كنتم من دولة – أمة عريقة ومتعددة القوميات – لم تختبروا معنى فقدان الدولة، اختبرتم وتختبرون تسلط الدولة في مراحل مختلفة من تاريخكم، ولكنكم لم تختبروا فقدان الدولة». (انتهى الاقتباس)
إن الأطفال اللبنانيين الذين بدأوا دخول المدارس الابتدائية خلال فترة تولي فؤاد شهاب الرئاسة، خلال الفترة 1958 ــ 1964، شكلوا نخبة المجتمع اللبناني الثقافية والسياسية والاقتصادية، هؤلاء هم الذين التحقوا بالجامعة اللبنانية والأمريكية واليسوعية، وجامعات أخرى داخل لبنان وخارجها، خلال الفترة 1970 ــ 1975. هؤلاء كانت نسبة الشيعة عالية من بينهم. لذا كان لهم ثقل كبير في ازدهار الثقافة والفنون والمشاركة في مراكز قيادية في الأحزاب السياسية. ولو أجرينا إحصائية للوصول إلى نسبة الشيعة من بين المفكرين والشعراء والصحافيين والفنانين، لوجدناها أعلى حتى من نسبتهم العددية من بين الطوائف اللبنانية الأخرى، خاصة من بين الشعراء والكتاب الصحافيين. والتشيع في لبنان أقدم منه في إيران بحوالي سبعة قرون، بل إن مفكرين شيعة من جبل عامل، كانوا مراجع دينية عند الشاه إسماعيل الصفوي في بدايات القرن السادس عشر، الذي قرر تبنّي دولته المذهب الشيعي. ومنذ اندلاع الثورة الإيرانية، قامت إيران بمحاولة نشر مذهب شيعي مختلف عن المذهب، الذي نشأ من التفاف نسبة عالية من العرب حول الإمام علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه. فالتشيع عربي قبل أن يكون إيرانياً بقرون عدة.
إن اللبنانيين والعرب أجمعين على وعي بأن الفرس كان لهم دور كبير في نهضة الثقافة والفكر الإسلامي، وهناك الكثير الذي مازال يمكن تعلمه من مفكرين إيرانيين. لكن يبقى اننا عرب وننتمي إلى ثقافة عربية إسلامية، أهم مكوناتها اللغة التي تشكل وطناً للعرب جميعاً، بصرف النظر عن طائفتهم او دينهم او مذهبهم. فالشيعي العراقي او اللبناني لا يحتاج إلى مترجم في كسروان، لكنه يحتاج إليه في اصفهان.
وهناك الكثير الذي نحتاج إلى أن نتعلمه كعرب وإيرانيين من الفكر والعلوم في الشرق والغرب. فالفجوة العلمية بيننا وبين اسرائيل هي أكبر من الفجوة العسكرية. وإسرائيل تهزم علمياً قبل ان تهزم عسكرياً. وعندما ننافسهم او نجاريهم علمياً سترجع فلسطين او اسرائيل وطناً للعرب واليهود والمسيحيين والدروز.