الربط الغريب وغير المنطقي بين حرب غزة والجبهة في الجنوب اللبناني، عرَّض هذه الحرب منذ البداية لأن تتدحرج مثل كرة الثلج وتصل مثلما توقعه الجميع إلى مستويات خطيرة وخارجة عن السيطرة. فما اراده حزب الله معارك إشغال وفق قواعد اشتباك ضمن حدود جغرافية ضيقة ودرجة تصعيد محدودة، أرادته إسرائيل فرصة للنيل من الحزب، باغتيال كوادره وقادته العسكريين، وتدمير منصاته، واختراق قواعده، وإظهار الفارق الهائل في القدرة العسكرية والتقنية والتدميرية، وفرض معطيات ميدانية أهمها حتى الساعة تهجير جميع الجنوبيين وأكثر أهالي البقاع من قراهم ومنازلهم وعدم السماح لهم بالعودة. بالتالي نسف مقولة توازن الرعب أو توازن القوى، وكشف ادعاءات حزب الله الأسطورية، وأظهر حجم الاختراق المخابراتي وحالة العجز والارتباك الذي وقع فيه منذ حصول مذبحة البايجر Pager.
دخل “حزب الله” الحرب من دون أفق سياسي بعدما ربط مصير جبهة الجنوب بحسابات “حماس” وقبول نتنياهو، ما جعل “حزب الله” يعلق مصير الحرب على معطى لا يملك قراره
دخل حزب الله الحرب من دون أفق سياسي بعدما ربط مصير جبهة الجنوب بحسابات حماس وقبول نتنياهو، ما جعل حزب الله يعلق مصير الحرب على معطى لا يملك قراره، في حين كانت فرصة لإسرائيل أن تعيد فتح ملف القرار 1701، وتطرح قضية عودة الحزب إلى ما وراء شمال الليطاني. أي استغلت إسرائيل تحريك حزب الله للجبهة، لتعيد طرح مسألة التواجد العسكري للحزب في الجنوب، بعدما كان مسكوتاً عنه دولياً وتم التغاضي عن مخالفته للقرار 1701، مقابل احتفاظ الحزب بحدود آمنة وهادئة. بالتالي انتقلت المفاوضات السياسية مع الحزب من مساومته على الفصل بين جبهة الجنوب وحرب غزة، إلى الضغط من قبل إسرائل، ومعها الولايات المتحدة ضمناً، لانسحاب الحزب إلى ما وراء الليطاني، والتشديد عليه بترتيبات مستقبلية صارمة وقاسية.
هذا يعني أن الفصل بين الجبهتين، لم يعد متحققا على المستوى الميداني والعسكري فحسب، بل أصبح متحققاً على المستوى السياسي والدبلوماسي والدولي. هذا أدى إلى أن تطرح مشكلة سلاح هذا الحزب على الصعيد الدولي، والسعي لإيجاد شروط وضوابط أكثر صرامة ومنضبطة لانتشاره، وأدى إلى أن تطرح مشكلة هذا السلاح على المستوى الداخل اللبناني أيضاً، سواء أكان لجهة وضعه غير السوي الذي ينقض كل مقومات السيادة، أم لجهة جدوى هذا السلاح بعدما أثبتت وقائع المعارك والمواجهات الأخيرة خروج سلاح الحزب عن وظيفته كمقاومة، فضلا عن عجزه بل فشله في تأمين الحماية للجنوبيين وللبنان عموماً.
إقرأ ايضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: عام على حرب الإشغال والمساندة!
مرور سنة، أظهر أن وحدة الساحات شعار فارغ من أي معنى سياسي أو عسكري، ولم يكن طوال هذا العام سوى استعراضات متقطعة تحصل من حين لآخر، من دون أن تحقق معطى ميداني، أو سياق سياسي. وأظهر أيضاً أن إيران، الدولة الراعية والموجهة للأذرع المنتشرة في المجال العربي، أخذت تعتمد أداء براغماتياً ينسجم مع شبكة مصالحها، أي تتقدم لديها حسابات الدولة وضرورات النظام، لا الاعتبارات العقائدية والأيديولوجية. بل نجدها تسحب يدها من تداعيات حرب غزة، وتتجاهل الاختراق الإسرائيلي لها بل الإهانة العظمى لها باغتيال اسماعيل هنية على أرضها، وبدأت على لسان رئيس جمهوريتها الجديد اتباع سياسة السلام والأمن لكل دول المنطقة، أي السلام لدولة إسرائيل وإن لم يذكرها بالإسم.
مرور سنة أظهر أن وحدة الساحات شعار فارغ من أي معنى سياسي أو عسكري ولم يكن طوال هذا العام سوى استعراضات متقطعة تحصل من حين لآخر
مقابل هذا، تجد أن أذرع هذا النظام، ما تزال تتفوه بلغة تعبوية واستعراضية غير مفهومة، وتكثف من توظيف المقدس الديني وتصعِّد من لغة المعجزات والاستعانة بالغيب، وتحول مفهوم الشهادة من فعل دفاع عن الحياة إلى فعل انتحار وعشق للموت المجاني. هي وضعية جعلت هذه الأذرع وفي مقدمها حزب الله، منفصمة عن الواقع، لا تحسن قراءة معطياته وأبعاده وتقدير عواقب ومآلات أية مبادرة أو حملة عسكرية، فضلا عن سلوك اللامبالاة من التبعات المدمرة لجملة سياسات ومواقف تصر عليها وتتشبث بها، على طريقة من بعدي الطوفان.
غَسَل النظام الإيراني يديه من حرب غزة ومن حرب الإشغال والمساندة أيضاً وبلع جرح الإهانة الأسرائيلية له باغتيال هنية على أرضه
غَسَل النظام الإيراني يديه من حرب غزة، ومن حرب الإشغال والمساندة أيضاً، وبلع جرح الإهانة الإسرائيلية له باغتيال هنية على أرضه. هذا يدل بوضوح على أن حرب غزة وجبهة الإسناد وصلت إلى الطريق المسدود، ولم تعد قابلة للتوظيف السياسي أو أن تكون ورقة ضغط تستعملها إيران ضد خصومها. فتجدها نتيجة لذلك تعتمد على لسان رئيسها الجديد خطاباً سياسيا مختلفاً بل مناقضا بالكامل لسياسات الحرس الثوري ومجريات الصراع الدائر بين إسرائيل من جهة وحماس وحزب الله من جهة أخرى.
حين كان الخميني ييبشر أتباعه ومؤيديه في أواخر الثمانينات من القرن العشرين، بأنهم خلال أقل من عام سيُصَلُّون في القدس، إذا به بعد أسبوع أو أكثر من هذا الوعد، يعلن أنه سيشرب كأس السم بإيقاف الحرب ضد العراق. حينها كان الخميني مخيراً بين بقاء الدولة والإنهيار الداخلي من جهة، وبين استمرار الحرب المقدسة لتحرير القدس، فاختار بقاء النظام وحفظ التماسك الداخلي. وقتها تنفس الإيرانيون الصعداء وكبُر الخميني في أعينهم أكثر، وانزعج موالوا الخارج الغارقين في أسر الملاحم النبؤاتية وطوباوية نهاية التاريخ.
إما أن يستمر “حزب الله” في جبهة تكاد تطيح بكل ما تبقى من مقومات بقاء واستمرار واستقرار وإما أن ينصت لنداءات اللبنانيين الجدية بأن هذه الحرب ليست خياراً حكيماً أو حميداً
الآن وبعد مرور أكثر من خمس وثلاثون عاماً على السم الذي تجرعه قادة النظام الإيراني لإنقاد وضعهم الداخلي، تكاد المعطيات نفسها تتكرر في لبنان، إما أن يستمر حزب الله في جبهة تكاد تطيح بكل ما تبقى من مقومات بقاء واستمرار واستقرار وشروط حياة كريمة في لبنان ، وإما أن ينصت لنداءات اللبنانيين الجدية بأن هذه الحرب ليست خياراً حكيماً أو حميداً وأن إيقافها من طرف واحد ضرورة قصوى، وبأن يقتدي بقائده ورمزه الأعلى الخميني، ويتجرع صناع القرار فيه سم التراجع عن قرار اتخذ بأثر من نرجسية ذاتية متضخمة، ووعي مؤسطر بقدراته، وسوء تقدير لإمكانات العدو الفعلية، والأهم من ذلك والأخطر: سلوك اللامبالاة وعدم التعاطي المسؤول مع الدمار والقتل والتشريد والمهانة التي يتعرض لها اللبنانيون، واعتبارها آثاراً جانبية وهامشية لا بد منها في فنتازيا حربه الجهادية المفتوحة.