حين أعلن “حزب الله” إطلاق حرب الإشغال والمساندة، كان الإشكال الرئيسي في الداخل اللبناني، هو أن ذلك تجاوز لمبادىء السيادة اللبنانية، كون إعلان الحروب وإدارتها هو شأن الدولة حصراً. وأن ذلك بمثابة زعزعة، مقصودة أو غير مقصودة، للاستقرار الداخلي سواء أكان لجهة الانهيار الاقتصادي الكاسح والمتعمق، أم لجهة اعتراض الغالبية الساحقة من اللبنانيين على هذه الحرب. ما جعل الحزب مكشوف الظهر في الداخل، ويعاني في حربه هذه من عزلة داخلية غير مسبوقة. بإختصار كانت المشكلة الأساسية منذ إطلاق حربه هذه، هي غياب المشروعية السياسية من جهة، وافتقاده الإجماع اللبناني حول حربه، ما جعلها حرباً غير لبنانية على أرض لبنانية.
الآن وبعد ما يقرب من سنة على إطلاق حملة الإشغال والمساندة، فإن التحفظات التي ذكرناها لم تتغير ولم تتبدد، ولم يعمد “حزب الله” إلى تداركها. فهو ماض في حربه بلا سقف زمني، وبلا أفق سياسي منضبط، بعد أن ربط مصير لبنان بوقف الاعتداءات الإسرائيلية على غزة، والتي لن تحصل إلا باتفاق سياسي بين حماس وإسرائيل. بالتالي وضع مصير الجبهة الجنوبية، ومصير الجنوبيين خصوصا واللبنانيين عموما، تحت رحمة التوحش الإسرائيلي، وبيد تقديرات السنوار الكارثية. أي وضع مصير ومستقبل لبنان، دولة وشعباً، بيد دولة عدوة هي إسرائيل، وبيد تنظيم جهادي محكوم لرؤية عقائدية لا تعبأ بالمآلات، ولا تدخل مصلحة لبنان وجنوبه ضمن حساباته الجهادية.
الأثمان الكبيرة التي تدفع في الأرواح والمنشآت والتهجير تكاد لا يقابلها شيء في الإنجاز العسكري والاستراتيجي
والحال، فإن مرور عام على حرب الإشغال والمساندة، أظهر معطيات جديدة لم تكن ظاهرة وواضحة من قبل. تجعل المطلب بأن يوقف “حزب الله” هذه الحرب ملحاً وعاجلاً، لا لجهة عدم شرعيتها السياسية وفقدانها الإجماع الوطني فحسب، وإنما لجهة عدم الجدوى منها من جهة، ولجهة الخلل الفاضح في ميزان القوى بين طرفي المواجهة: إسرائيل و”حزب الله” من جهة أخرى.
أما عدم الجدوى، فلا أثر سلبي يذكر لهذه المعركة على القوة العسكرية الإسرائيلية في حربها في غزة، رغم إحتفاظها بما يزيد على مئة ألف جندي على حدودها الشمالية. بالتالي فإن الأثمان الكبيرة التي تدفع في الأرواح والمنشآت والتهجير، تكاد لا يقابلها شيء في الإنجاز العسكري والاستراتيجي. ولا معنى من اصطناع انتصارات جانبية، من قبيل تهجير مئة ألف مستوطن واعتبار ذلك إنجازاً عسكرياً، في الوقت الذي يحصل تدمير شبه كامل لأكثر القرى الحدودية، وتهجير أكثر من مئة ألف مواطن جنوبي من أرضه، ويعاني النازحون من وضعية معيشية مزرية، إضافة إلى الحجم الكبير في الخسائر البشرية.
تقدير الجدوى هنا، لا صلة له بالمضمون الديني والدوافع العقائدية، الذي يوظف عادة للتغطية على وقع الكارثة والهروب من تحمل المسؤولية، وإنما يتعلق بالحسابات الدقيقة والتقديرات الموضوعية، لسير المعارك وإدراتها وتقييم نتائجها وتلمس ثمارها. وحين نكتفي بالتفسير الديني والتعبئة العقائدية لما نقدمه من خسائر وضحايا، نكون في حالة انفصام عن الواقع، ونسوغ الموت المجاني والطوعي، الذي لا يقابله شيء سوى الإيمان بالثواب الديني والجزاء الأخروي.
أما جهة الخلل في موازين القوى. فقد أظهرت المواجهة الحالية، أن “حزب الله” ظل يراهن على نمط المواجهة التقليدي الذي مارسه في حرب 2006، في حين أن إسرائيل قد غيرت من عقيدتها واستراتيجيتها القتالية، وطورت بنيتها العسكرية بالكامل، وأظهرت أن التفوق العسكري ليس في حجم القدرات التدميرية، إنما في التفوق التكنولوجي الهائل وغير المسبوق، الذي مكن إسرائيل من إحداث اختراق سبراني وأمني داخل الحزب، ووفر لها اليد العليا في إدارة المعركة.
التفوق العسكري ليس في حجم القدرات التدميرية إنما في التفوق التكنولوجي الهائل وغير المسبوق الذي مكن إسرائيل من إحداث اختراق سبراني وأمني داخل الحزب
هذا التفوق الذي انعكس في ميدان المواجهة، أظهر الفجوة الكبيرة بين ادعاءات “حزب الله” حول إمكاناته، وبين قدرته الفعلية في سير المعارك، وكسر أو أجهض معادلة توازن الرعب أو الردع بين إسرائيل والحزب بعد سلسلة انتكاسات استخباراتية وضربات موجعة جداً للحزب، تمثلت في تصفية أكثر قادته الأمنيين في عقر داره. ما تسبب بإرتباك واضح في إدارة معركته، ولم يعد قادرا على التحكم في وجهتها، وبات بمثابة المتلقي الذي يكتفي بردات فعل مدروسة ومحدودة، ومن موقع الحريص على التقيد بقواعد الاشتباك التقليدية، رغم إعلان إسرائيل أنها انتقلت إلى مستوى مواجهة أكثر ضراوة ووحشية، لم تعد تعترف فيها بأية خطوط حمر.
أخطر ما تبدى من الخلل الهائل في ميزان القوة بين إسرائيل و”حزب الله”، هو عجز “حزب الله” ببنيته العسكرية والقتالية الحاليتين عن حماية المواطنين، بخاصة سكان القرى الجنوبية والحدودية، وعدم كفاءته في توفير شروط صمود لهم في منازلهم وبيوتهم، أو تأمين بدائل ورعاية كافيين بدائل في وقت الأزمات. أي فقد قدرته الردعية التي تردع إسرائيل عن ممارسة جرائمها بحق الجنوبيين، وهي القدرة التي كانت المسوغ الاساسي لبقاء هذا السلاح، وموجب الدعم الأول الذي يستمده من بيئته الحاضنة.
إقرأ ايضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: لماذا يتجنب نصر الله مخاطبة اللبنانيين؟!
يستدعي مرور عام، مع ما أفرزه من معطيات ووقائع، مراجعة الحسابات والتفكير ملياً بشفافية، بعيداً عن الشعارات والخطب التعبوية والاستعراضية التي تحولت إلى أقنعة خادعة بين الحزب وجمهوره، ووسعت الفجوة بينه وبين باقي اللبنانيين بمختلف انتماءاتهم، وخلقت لديه نرجسية ذاتية تفصمه عن حقيقة الواقع ومعطياته. فالمراجعة وإعادة النظر وتصويب الخيارات، ليست جميعها هزيمة بل شجاعة في نقد الذات، وليست جبناً بل علامة على القيادة الحكيمة، وليسا خروجاً على المبادىء، بل تواضعاً ومسعى لردم الفجوة بين الادعاء وما يوفره الواقع من إمكانات، وليست انكساراً بل إعادة ترتيب الأولويات، وتصويب وضعية غير سوية ما يزال “حزب الله” يصر على التمادي بها، ويكابر بعدم الاعتراف بآثارها المدمرة على لبنان واللبنانيين، بما فيهم حزب الله نفسه.
ربط مصير جبهة الإشغال والمساندة وبالتالي مصير لبنان بما تقبله “حماس” في مفاوضاتها مع إسرائيل هو ربط مصطنع وعبثي وضعُ مصير الجبهة بيد غيره “حماس” وإسرائيل،
تبين بعد عام، أن ربط مصير جبهة الإشغال والمساندة وبالتالي مصير لبنان، بما تقبله “حماس” في مفاوضاتها مع إسرائيل، هو ربط مصطنع وعبثي. وضعُ مصير الجبهة بيد غيره، “حماس” وإسرائيل، يُفقد “حزب الله” زمام المبادرة والقدرة على التحكم بسير المعركة، كونها معلقة على مسار وسياق لا يد ل”حزب الله” فيهما، ويجعل “حزب الله” مكشوفاً ومخترقاً أمام خصمه، أكثر من أي وقت مضى، إضافة إلى أنه يسلب عن الدولة اللبنانية صلاحية القرار، ويضيق عليها هامش الحركة، ويعطل قدرتها على التفاوض، لاجتراح حل دبلوماسي مشرف للبنان، ويحفظ ل”حزب الله” ماء وجهه.
الإجماع الوطني ضرورة لا غنى عنها لنجاح أية معركة وأن العقيدة الوطنية هي الرديف البديل عن العقيدة الدينية والتأويلات الأيديولوجية
تبين أن الإجماع الوطني ضرورة لا غنى عنها لنجاح أية معركة، وأن العقيدة الوطنية هي الرديف البديل عن العقيدة الدينية والتأويلات الأيديولوجية، التي تُزج في المجال السياسي بنحو مصطنع ومبتذل، وتُحوِّل قضية الصراع ضد إسرائيل، من مسألة وطنية وقومية إلى مسألة مذهبية وشخصية. تبين أن كثافة العقيدة الدينية وصلابة الإيمان، لا يُعوِّضان الضعف التكنولوجي، ولا يردمان الهوة الجلية والعميقة بين القدرة العسكرية الإسرائيلية، من جهة وقدرة “حزب الله” الحالية ومستوى التكنولوجيا العسكرية الإيرانية من جهة أخرى. تبين أن قداسة السلاح، تكمن في أن يكون وسيلة وأداة حماية للافراد وفي خدمة المجتمع، لا أن يتحول تكديس السلاح إلى غاية بذاته، وهدف أسمى تهدر لأجله الموارد، وتبذل في سبيله الأنفس والارواح. تبين أن الإنجازات لا تتحقق بالسلب، أي بحجم الدمار والأذى الذي نلحقه بالعدو، أو بالقدرة على المضي في هذه الحرب إلى ما لا نهاية، وإنما بالإيجاب أي توفير الشروط الموضوعية لحياة أمنة وكريمة في الداخل اللبناني. تبين أن قوة لبنان تكمن في تفعيل نظامه السياسي، وفي حرية التعبير والفكر والاختيار، وفي إِدراك الجميع في النقاش الداخلي الصريح والشفاف لكل المسائل والقضايا، بحيث لا يعود هنالك، مع التفريط بأي من هذه المقومات، من قيمة لأي سلاح أو من معنى في أن نقاوم.