كتب الشاعر شوقي بديع على صفحته عبر “فايسبوك”: “لعل أصعب الكلمات وأشدها وطأة على النفس , هي تلك نضطر الى قولها على مسافة لحظات قليلة من رحيل من نحبهم , وقبل أن نرافق جثامينهم الى مثواها الأخير . فكيف إذا تعلق الأمر برحيل كاتب متميز ومتعدد الهويات الابداعية من وزن الياس خوري , الذي لا يليق بوطأة رحيله سوى الصمت أو الذهول . صحيح أن الوتيرة المتصاعدة للحروب والكوارث , وآخرها ما يجري في غزة والضفة والجنوب اللبناني , قد أكسبت الموت ألفة لم تكن له , وجعلته يرافقنا كالظل في حركاتنا وسكناتنا وتفاصيل عيشنا اليومي , ولكن الياس خوري لم يكن طرازاً عادياً من الكتاب , لكي نسلم المساحة الشاغرة التي تركها خلفه الى التجاهل أو النسيان” .
واضاف، “منذ زاملته على مقاعد الدراسة في الجامعة اللبنانية , أوائل سبعينيات القرن المنصرم , لم يقدر لي أبداً أن أرى الياس خوري متلبساً بحالة هدوء أو استكانة . فقد كان مزيجاً صاخباً من الحب والتأمل والتمرد والسخط والتربص والغليان والصخب والاعتراض على كل شيء , حتى ليحسبه زملاؤه وعارفوه , أقرب الى العاصفة التي تسير على قدمين , منه الى أي شيء آخر . وحيث لم تكن أعراض الموهبة الروائية والنقدية قد بدت بعد في نصوصه وأوراقه , فقد راح الياس يستعين بملامحه المجردة وحركات يديه وجسده العصبي لكي يبعث برسائل احتجاجه المتلاحقة الى العالم”.
وتابع، “ولأن فلسطين كانت ماثلة في قلب الياس وعقله وشرايينه , سرعان ما انتبه محمود درويش , الذي كان انتقل آنذاك للعيش في بيروت , الى ما يختزنه صاحب ” الجبل الصغير ” في داخله من نزوع ثوري وطاقات مختزنة , فاختار أن يكون الى جانبه في تحرير مجلة ” شؤون فلسطينية ” التي عملت على نقل فلسطين من عهدة الانشاء الرومنسي الى عهدة الانتصار للذاكرة الجمعية , والتنقيب الرصين عن الحقيقة الموثقة بالبراهين .
لكن مفاجآت الياس خوري الأكثر إدهاشاً كانت تطل من جهة السرد الروائي على وجه الخصوص . فهو وإن تفاعل بقوة مع قضايا السياسة والمقاومة والدفاع عن القضايا الكيرى , وفي طليعتها قضايا لبنان وفلسطين والعالم العربي , إلا أنه رفض الاتكاء على موضوعه , أو تحويل السياسة الى رافعة للرداءة الفنية والأسلوبية , كما فعل كثر آخرون من الروائيين والشعراء والفنانين . وحيث كان من الطبيعي أن لا يأنس الياس الى تكرار نفسه , وهو المبدع الجامح الذي يكتب بجماع أعصابه , فقد بدت رواياته كما لو أن كل واحدة منها منبتة عن الأخرى , ومنتمية الى أسلوب مغاير ومقاربة مختلفة . هكذا بدت الفروق شاسعة بين ” الوجوه البيضاء ” وبين ” مجمع الأسرار ” , أو بين ” رحلة غاندي الصغير ” و ” مملكة الغرباء ” , أو بين ” كأنها نائمة ” و” باب الشمس ” .
وقد يكون إدوار سعيد الذي اعتبر في مقالته الشهيرة ” وداعاً نجيب محفوظ ” بأن رواية محفوظ قد بلغت محطتها الأخيرة , وأن راية السرد الجديد هي في عهدة جيل الوراثة الذي يتصدره خوري , قد أضاف الى رصيد الياس قيمة مضافة الى تلك التي منحها له صديقه الآخر محمود درويش , إلا أن الرصيد الأثمن لصاحب ” رائحة الصابون ” هو ذلك الذي استحقه بموهبته العالية وثرائه المعرفي , وإنصاته العميق الى آلام المحرومين من أبسط حقوقهم , والمبثوثين في ضواحي المدن والأزقة المهملة ومخيمات اللجوء”.
واستكمل بزيع، “لقد عرف الياس كيف يصغي بأناة الى حكايا البشر المنسيين , وكيف يصنع من سيرهم وقصاصات عيشهم أساطير وقصصا وملاحمً , مغايرة تماماً لتلك التي تركها لنا الإغريق وكتاب الملاحم المعروفون . والفلسطينيون الذين قرروا تكريماً له , تحويل روايته ” باب الشمس ” الى قرية حقيقية وبيوت صالحة للسكن , بدوا وكأنهم يقدمون له النص الأجمل الذي لم يهتد النقاد الى كتابته , حيث اللغة والفن ليسا بديل الحياة , بل هما الحياة نفسها في صورة معدلة” .
وختم، “كم الحياة موحشة في غيابك يا صديقي الياس . ومع ذلك فإن ما يخفف من عبء هذا الغياب الثقيل , أن ما سيظل من لغتك في ذاكرتنا , ومن صمتك الصاخب في أسماعنا , ومن حضورك الساحر في قلوبنا , هو أكثر بكثير مما ستحمله معك الى القبر”.