لبنان وسوريّا: ترابط تاريخي ومستقبلي.. أيضاً

السفير هشام حمدان

لا حاجة لأن نعيد القراءة في التّاريخ القديم، للعلاقات بين سوريّا ولبنان، لكنّني أرغب أن أذكّر فقط بالرّوابط، التي قامت منذ استقلال البلدين في أربعينيّات القرن الماضي. فعندما كانت المصالح والمواقف بين الحكومتين متجانسة، كانت العلاقات في أفضل حالها، ونعم لبنان بالرّاحة، والإستقرار، والطمأنينة.

أمّا عندما تصادمت المواقف، وتناقضت المصالح، فقد كانت العلاقات متوتّرة، ودفع لبنان ثمنا باهظاً لذلك.

لم تكن مواقف لبنان يوما في خانة العداء لسوريّا. لكنّه لم يتبنّ نظاما متجانسا في عقيدته الإيديولوجيّة،  مع عقيدة النّظام السّوري. تباينت مواقفهما من القضايا المحلّيّة، إلى الإقليميّة والدّوليّة

لم تكن مواقف لبنان يوما في خانة العداء لسوريّا. لكنّه لم يتبنّ نظاما متجانسا في عقيدته الإيديولوجيّة،  مع عقيدة النّظام السّوري. تباينت مواقفهما من القضايا المحلّيّة، إلى الإقليميّة والدّوليّة.

لبنان بلد ديمقراطي متعدّد الأحزاب والقوى السّياسيّة، وينعم بحرّيّات عامّة واسعة، بينما سوريّا نظام عقائدي شمولي، يتّصف بالدّيكتاتوريّة، ويأسر الحرّيّات. كما أنّ لبنان التزم اتّفاقيّة الهدنة مع إسرائيل لعام 1949، فيما سوريّا تحوّلت إلى جبهة حروب حتّى عام 1973. بعد ذلك إلتزمت سوريّا بإتّفاقيّة فصل القوّات في الجولان، وأوقفت حروبها المباشرة ضدّ إسرائيل.

لم ينعكس التزام سوريّا إتّفاق الجولان إيجابا على لبنان. فقد إستمرت دمشق في مواقفها السّياسيّة تحت عنوان “ألتّصدّي والصّمود”، وشاركت في لعبة تجميع الصّراعات العربيّة ضدّ إسرائيل، وما تفرّع عنها من صراعات إقليميّة ودولية، على أرض لبنان. شاركت أوّلا بتجميع القوى الفلسطينيّة في لبنان، وبتعزيز دور الأحزاب والقوى الوطنيّة الملتفّة حولها، ثم في الصّراع الدّاخلي بين اللّبنانيّين الذي نجم عن الدّور الفلسطيني على أرض لبنان، ثمّ في صراع القوى الحاضنة للقوى اللبنانية على ضفّتي الصّراع. تحوّل لبنان إلى ساحة مفتوحة منذ عام 1975، لكلّ نزاعات الشّرق الأوسط.

لبنان بلد ديمقراطي متعدّد الأحزاب والقوى السّياسيّة، وينعم بحرّيّات عامّة واسعة، بينما سوريّا نظام عقائدي شمولي، يتّصف بالدّيكتاتوريّة، ويأسر الحرّيّات

حاول لبنان بعد أحداث سوريّا عام 2011، أن يبقى بعيدا عن تلك الأحداث، فصدر في حينه إعلان بعبدا الشّهير خلال عهد الرّئيس ميشال سليمان. توافق كل الأطراف اللبنانية في حينه على هذا الإعلان، دلّ على أن كلّ القوى العربيّة والدّوليّة رغبت ولو لأغراضها ومصالحها الخاصة، بالفصل بين أحداث سوريّا وأحداث لبنان. وحدها إيران رفضت ذلك وأصّرت على إبقاء هذا الرّابط، فأعلن حزبها في لبنان إنسحابه من إعلان بعبدا ورفضه له.

كان ملاحظا عمليّا، أنّ لبنان ظلّ عمليّا خارج أحداث سوريّا. وحده حزب إيران تدخّل هناك وصار جزءا من قوّات الحرس الثّوري إلإيراني، في الحروب التي جرت على أرض سوريّا. قلنا حينه، أنّ مشكلة لبنان إمتدّت مجدّدا لترتبط عضويّا بما يجري في سوريّا. لم تعد حالة لبنان مرتبطة فقط بالصّراع العربي الإسرائيلي، بل أيضا بالصّراع حول سوريّة، وأنّ لا حلّ في لبنان قبل حلّ الواقع في سوريا.

لبنان ظلّ عمليّا خارج أحداث سوريّا. وحده حزب إيران تدخّل هناك وصار جزءا من قوّات الحرس الثّوري إلإيراني، في الحروب التي جرت على أرض سوريّا. قلنا حينه، أنّ مشكلة لبنان إمتدّت مجدّدا لترتبط عضويّا بما يجري في سوريّا

إختار نظام دمشق في حينه، التّحالف مع إيران ضدّ العرب. وقف العرب ضدّ سوريّا، وكانت المقاطعة العربيّة للنّظام السّوري، وحملة الحرب ضدّه التي قادتها أنظمة عربيّة. كتبنا في حينه (2011)، دراسة معمّقة عن خلفيات الحرب الأهليّة في سوريّا وباقي الدّول العربيّة. قلنا في حينه، أنّ ما سمّي مجازا بالرّبيع العربي، ليس سوى تمويه لفكرة الفوضى الخلّاقة، التي إعتمدتها أميركا وأعلنتها صراحة السّيّدة كونداليزا رايس عام 2005، بعد فشل تغيير الواقع في العراق كما كانت تشتهي أميركا.

وقلنا بوضوح، أنّ واشنطن عادت إلى السّياسة البريطانيّة القديمة، في فرض وتكريس هيمنتها في المنطقة، وذلك عبر تعزيز دور القوى الأحزاب الدّينيّة، وإثارة الصّراعات الدّينيّة بين أهل المنطقة. وشرحنا كيف دفعت واشنطن عبر تركيّا وقطر، بدور الأخوان المسلمين وخاصّة في البلدان العربيّة ذات الأكثريّة السّنّيّة، وأفسحت لإيران الشّيعيّة، وأتباعها في الدّول العربيّة للعب دور ناشط مقابل. نجم عن ذلك كما قلنا مرارا سقوط ما سمّي بالقوميّة العربيّة لمصلحة القوى الدّينيّة. إختلفت النظرة إلى الصّراع مع إسرائيل، وصار المفهوم الإبراهيمي طبقا جاهزا للدّفع بسلام الشّرق الأوسط.   

واشنطن عادت إلى السّياسة البريطانيّة القديمة، في فرض وتكريس هيمنتها في المنطقة، وذلك عبر تعزيز دور القوى الأحزاب الدّينيّة، وإثارة الصّراعات الدّينيّة بين أهل المنطقة

يعود العرب الآن إلى سوريّا. ما معنى ذلك؟ هل يعني أنّ العرب اختاروا الإنضمام إلى إيران إلى جانب سوريّا، أم أنّ سوريّا اختارت التّمايز عن إيران، والعودة إلى العرب؟

1- علينا أن نذكر أنّ عودة سوريّا إلى الدّول العربيّة، حصل بعد التّحوّلات العميقة التي جرت في العالم العربي، وفي العلاقة العربيّة الإسرائيليّة، واعتراف عدّة دول عربيّة بإسرائيل، من بينها دولة الإمارات العربيّة التي قادت سياسة إعادة سوريّا إلى الجامعة العربيّة، بدعم من المملكة العربيّة السّعوديّة.

2- يلاحظ أنّ القمّة العربيّة التي جرت في جدّة عام 2023، وحضرها الرّئيس السّوري الأسد، كانت الأولى له بعد قمة سرت في ليبيا عام 2010. وهو كان الرّئيس الوحيد من الدّول التي شهدت حروبا أهليّة. إستمرار الأسد في منصبه له أسباب عديدة لا يمكن مناقشتها في هذه المقالة، لكن أهمها ولا شكّ، إلتزامه باتّفاق الجولان، وعدم فتح جبهة الجولان لجماعات “مقاومة” إيران. الأسد ملتزم فعلا إعلان بيروت عام 2002. وقد أكد ذلك، قبوله الواضح بإعلان تلك القمّة، التّمسّك بالمبادرة العربيّة لحلّ الدّولتين.

ولا يمكن أن نتجاهل أنّ سوريّا تفاعلت بكل ترحاب ومودة، مع نظام دولة الإمارات العربيّة التي أقامت علاقات دبلوماسية طبيعيّة مع إسرائيل، بخلاف ما كان عليه الأمر، عندما عقدت مصر أتفاق كامب دايفيد مع إسرائيل عام 1979.

مشكلة النّظام السّوري مع الدول العربيّة، كان ظاهرها الصّراع مع إسرائيل، لكنّها كانت عمليّا نتيجة موقفه إلى جانب إيران الشّيعيّة، في حين كانت الدّول العربية، وكلّها دول إسلاميّة بأكثريّة سنّيّة، في حالة عداء معها

3- مشكلة النّظام السّوري مع الدول العربيّة، كان ظاهرها الصّراع مع إسرائيل، لكنّها كانت عمليّا نتيجة موقفه إلى جانب إيران الشّيعيّة، في حين كانت الدّول العربية، وكلّها دول إسلاميّة بأكثريّة سنّيّة، في حالة عداء معها، بسبب سياسة تصدير الثّورة والتّشيّع بين المسلمين. مصالحة السعودية وإيران أفسح الباب أمام نهاية هذه الإشكاليّة. تظل العلاقة السورية القطرية متوتّرة بسبب موضوع الأخوان المسلمين.

وهذا الأمر ينطبق على علاقة سوريّا مع تركيّا. يعتبر العرب هذا الموضوع شأنا داخليّا سوريّا. ونحن نعتقد أنّه سيخضع في المحصلة إلى التّسوية السياسيّة الإقليميّة، التي ستأخذ بعين الإعتبار دور إيران في ذلك البلد، وأيضا في لبنان، لا سيّما لما له من تأثير على حلّ القضيّة الفلسطينيّة.

وكنّا حذرنا في مقالة سابقة على صفحة “جنوبيّة”، من فدرلة سوريا، وإقامة الدّويلة العلويّة على الحدود الشّرقيّة الشّماليّة للبنان.

نذكر بما كنا أعربنا عنه من خشيتنا وما زلنا، من حرب في الجنوب، تدفع إلى إبعاد حزب إيران منه ومن الضّاحية، وإلى تجميع قواه في البقاع مما يسمح له مستقبلا من أن يكون ذراعا لإيران، في لبنان عبر الدّويلة العلوية.

إقرأ أيضا: الاستقالات تنخر صفوف الجيش الإسرائيلي والشرطة.. ماذا عن رئيس الأركان؟

وقد زادت قناعاتنا هذه، بعد عدّة مؤشرات حصلت أخيرا، أهمّها استدارة رئيس “الحزب التّقدّمي الإشتراكي” السّابق وليد جنبلاط نحو ” المقاومة”، بما يعني إخراج الجبل من أيّة فتنة مقبلة في البلاد، في الوقت ألذي تمّ فيه توزيع فيديوات ترفع من منسوب التّوتّر بين “حركة أمل”، وحزب إيران في لبنان، والتي نرى فيها انقلابا في الوقت المناسب ضدّ سلاح الحزب في الجنوب، وضمان وقف دوره العسكري ضدّ إسرائيل. هذا إضافة إلى تصريح رئيس “حزب القوّات اللّبنانيّة” مؤخّراً بشأن تعديل الدّستور، الذي لا هدف له حتما، إلا إقامة المثالثة في النّظام اللّبناني.

السابق
«الصحة العالمية»: اكتمال تطعيم أطفال غزة بالجرعة الأولى ضد شلل الأطفال
التالي
الآلاف من المقاتلين الحوثيين وصلوا إلى سوريا!.. إليكم التفاصيل