سنتان على غياب شاعرنا الكبير محمد علي شمس الدين. وخير ما نكتبه في مناسبة ذكراه، إعادة نشر حوار صحافي سابق أجريته مع الراحل عام 2009 في جريدة الراي الكويتية.
شاعر يكتب ولا يملّ البحث في مفردات اللغة والحياة، والقصيدة بالنسبة اليه حياة كاملة، لا يمكنه العيش خارجها. محمد علي شمس الدين الشاعر الذي كتب عن الزمن بمفردات الزمن وعن الانسان بمفردات الانسان، ما زال على الدرب، يكتب ويكتب، يرتّب الحياة واللغة في هيكل ايامه وزمنه. وجديده اليوم، اصدار اعماله الشعرية الكاملة في مجلدين كبيرين.
شاعر يكتب ولا يملّ البحث في مفردات اللغة والحياة، والقصيدة بالنسبة اليه حياة كاملة، لا يمكنه العيش خارجها
تزامناً مع اصدار اعماله الشعرية، تحدث الشاعر الى بالرايا شارحاً الوقائع والأشعار واللحظات التي عاشها ويعيشها:
ما هو الشعر؟ كيف تعرّفه اليوم بعدما قطعت مسافة شاسعة في حقوله؟
– يصادف ان يوجّه هذا السؤال الي بعد صدور الأعمال الكاملة بجزأين عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وعلى ابواب ديوان جديد غير مضمّن في هذه الاعمال عنوانه «اليأس من الوردة».
في السؤال طلب لتعريف الشعر الآن، وفي بالي ما كتبته سابقاً وحاضراً من الف «قصائد مهرّبة الى حبيبتي آسيا» الى ياء «اليأس من الوردة» ما يساعدني على استبطان التجربة، خصوصا ان ثمة دراسات وأطروحات كثيرة اكاديمية وحرّة، ركزت اضواؤها على هذه الاشعار وتقدّمت بخلاصات واجتهادات متنوّعة.
من رصد حركة الكلمات والعبارة من ديوان لآخر (الدكتور حسين علي امين بالاسبانية) الى مسألة الانزياح في العبارة (أميمة رواشدة في جامعة مؤتة الاردن) الى خصائص الوزن والصورة والعالم الهندسي والموسيقي للشعر في هذه التجربة في مقابل قصيدة النثر (الدكتور زكريا صالح مكي، الجامعة اللبنانية) الى ما هنالك من دراسات اكاديمية اعوّل عليها للمساعدة في التعرف على تجربتي الشاعرية لما تتسم به من الموضوعية والجدّية والتقصّي والمقارنة والنقاش على ايدي دارسين شباب في الجامعة من جهة، باشراف وعناية اساتذة متنوعين وذوي خبرة وتجربة ومنهج من ناحية اخرى، وفي منطقة من الدراسة بعيدة كل البعد من العلاقات الشخصية بخلاف ما هي الحال في النقد الانطباعي وبعض النقد الناجم عن علاقات شخصية في الصحافة الثقافية.
يرى الدارسون انني صاحب تجربة شعرية حديثة ولكنها غير مدرسية (الدكتور بدرو مونتابيت رئيس جامعة الاتوتونوما في مدريد) وان في هذه التجربة تبرز قوة الكلمات والتركيب الصوري والموسيقي المسيطر، والذي من خلال تنوعه تتقدم المعاني الغامضة والواضحة في الجنس والدين والحب والواقع والأسطورة
يرى الدارسون انني صاحب تجربة شعرية حديثة ولكنها غير مدرسية (الدكتور بدرو مونتابيت رئيس جامعة الاتوتونوما في مدريد) وان في هذه التجربة تبرز قوة الكلمات والتركيب الصوري والموسيقي المسيطر، والذي من خلال تنوعه تتقدم المعاني الغامضة والواضحة في الجنس والدين والحب والواقع والأسطورة.
اليوم، ارى ان الشعر ورطة وخلاص لي كالولادة والموت. هو قوة كونية مغناطسية يحتشد فيها الله، وليس الشيطان بعيداً منها بحكم كونه الوجه الاسود للنهار، والشعر هو الميزان، والخلل في الميزان هو الوجود والكينونة بكل ما فيهما من سطوح وتفاصيل وأعماق وسطوع وغموض وغصص ومسرّات.
الشعر في اختصار هو الكينونة ولا كينونة من دون شعر، لذلك اميل لاعتباره قريباً من النور بالمعنى الصوفي «الله نور السماوات والأرض» أما لناحية تقنية الكتابة الشعرية فهي في اختصار ما يشرشر من دم الشاعر في الكلمات، وهي ترجمة اللغة للجنون المندلع في قلب الشاعر.هل تفي القصيدة بغرض السعادة؟
اليوم، ارى ان الشعر ورطة وخلاص لي كالولادة والموت. هو قوة كونية مغناطسية يحتشد فيها الله، وليس الشيطان بعيداً منها بحكم كونه الوجه الاسود للنهار، والشعر هو الميزان، والخلل في الميزان هو الوجود والكينونة بكل ما فيهما من سطوح وتفاصيل وأعماق وسطوع وغموض وغصص ومسرّات
– كلياً. ولكن ايضاً بغرض الشقاء.
متى تكتب؟ ولمن؟ وهل الكتابة ضرورية لإثبات الحضور؟
– إما ألا يكتب احد شيئاً، فيبقى كل شيء داخله في عماء ولا يظهر الى النور وبرغم اهمية العماء الا انه من غير النور مبهم وغير متكوّن، وإما ان يكتب الشاعر ثم يصمت، وقد يعود للكتابة من جديد وقد لا يعود. هنا يقاس عمق صمته بعمق كتابته. شخصياً، غالباً ما اصغي، كما اقول «لعويل الصمت»، اما متى؟ ولمن؟ فالكتابة استجابة لنداء باطني. حين يسكت هذا النداء تسكت الكتابة. لمن؟ لشخص افتراضي وغامض بين انه موجود او غير موجود. احياناً اخمّن صورته وموقعه واستجابته، احياناً لا اخمّن. ولكن دائماً الكتابة نفسها، القصائد، تساعد كثيراً في رسم صورة من تتجه اليه. اي انني انا الذي اختار القارئ اكثر مما يختارني القارئ. فأنا اخاف من الآخر كثيراً وأحاول ان اعزل نفسي عنه. اعني شعري.
ما موضوعاتك وأفكارك الشعرية اليوم؟
– كثيرة ومتباعدة ومحتشدة ومتنافرة. لكن تكوّن في نفسي، على ما احسّ وأرى، بحيرة اشراق، اغطس فيها مع افكاري ومشاعري، وأغتسل وأغسل كل شيء قبل ان يخرج عارياً وملتبساً في الكلمات.
«اليأس من الوردة» ليس يأساً من الوجود، ولكن من ظواهره ومصطلحاته وما توافق عليه الجمهور
«اليأس من الوردة» ليس يأساً من الوجود، ولكن من ظواهره ومصطلحاته وما توافق عليه الجمهور.
لغتك الاولى. هل تغيّرت؟ وكيف؟
– يلوح لي ان الخطوط البيانية للكلمات والجمل الشعرية، تغيّرت من ديوان الى آخر. في الدواوين الاولى سيطرت مفردة «الدم» وحملت التجربة في اتجاه العنف الخالص، والكلمات كانت كاسرة والايقاع له سطوة. بعد ذلك اتت مرحلة «الطير» وهي تمهيد وانخراط في التجربة الشعرية الاشراقية، حالياً ربما مرحلة الماء والغيم تسيطر. التقنيات الشعرية متدافعة ومتداخلة. على كل حال، من الاساس، وكما قيل بحق، انا «شاعر غير مدرسي».
متى تشعر بضرورة الكتابة؟
– الكتابة استجابة لطلب داخلي، لأمر داخلي. تأمرني الكتابة وكأنها آمر قليلاً ما املي عليه كلماتي. الكتابة تحضر هكذا بمثل آلية هبوط النوم على النفس. حين تأمر استجيب. حين لا، لا.
هل احفّزها انا؟ هل استدرجها كما كان يفعل النابغة (ولعلّه سواه) حين يحرف الشعر فيلف رأسه بعصبة بيضاء ويركب فرسه ويشرد هائماً على وجهه في الصحراء، علّ الشعر يوافيه؟
يلوح لي ان الخطوط البيانية للكلمات والجمل الشعرية، تغيّرت من ديوان الى آخر. في الدواوين الاولى سيطرت مفردة «الدم» وحملت التجربة في اتجاه العنف الخالص، والكلمات كانت كاسرة والايقاع له سطوة. بعد ذلك اتت مرحلة «الطير» وهي تمهيد وانخراط في التجربة الشعرية الاشراقية
أقول: نعم احياناً من خلال المشي بلا هدف في الشوارع، احياناً تأتي وأحياناً لا تأتي. ومن يدري متى؟ كتبت ذات مرة قصة قصيدة مفادها اني صيّاد طيور، تبعت ببندقيتي وجعبة الصيد، طائراً بعينه، في الحقول والاودية ومجاري الانهر والسهول والجبال، فلم اقو على اصطياده. وحين تعبت وكدت اسقط من الاعياء، جلست تحت شجرة، فأتى الطائر بهدوء ووقف على طرف البندقية الذابلة، وقفز منها بين يدي، وجلس امامي، ومددت يدي اليه، فلم يهرب، وأمسكت به، وتأملته، ثم أطلقته، فعاد الى الفضاء. هكذا هي الكتابة.
انا اترك اليأس يشتعل في القصيدة.
متى ترفض او تملّ الكتابة؟
– لا ارفضها او املّها الا نتيجة يأس حاد. يأس مُبيد. كيأس ابي حيان التوحيدي او يأس كافكا حين ارسل لنا شره وصديقه ماكس برود يأمره ان يحرق مخطوطاته ورسائله غير المنشورة. قال له: احرقها يا برود احرقها.
انا اترك اليأس يشتعل في القصيدة.
هل ترى في تجربتك الشعرية ما يمكن حذفه؟
– في الاساس لا اثبت في النشر سوى ربع ما اكتب بعد ان اخضعه لتصفيات كثيرة وعسيرة. ان الكثير الغالب من تجاربي الشعرية مستور وأعتبر انه خاص وسرّي ومحروق خوفاً من ان يفاجئني الموت ويأتي من ينشر بعد موتي قصائد قد تخونني. انا احرق كل ما اسمح له بالنشر. لذلك لا يمكن حذف اي كلمة من دواويني.
من الاساس انا حذر. انظر الى ما حصل لنزار قباني وقبله لبدر شاكر السياب وبعده لمحمود درويش بعد الموت؟ نشرت لهم اشعار ضعيفة وأحسب لو نهض هؤلاء من الموت لكان اول سؤال لهم لماذا؟
الغوص عميقاً في الكتابة، هل يغيّر الحياة؟
– الغوص في الكتابة بالنسبة اليّ غوص في الحياة. لا كتابة لا حياة. هل يغيّر؟ بالطبع نعم. احسّ انه لا فاصل بين اطراف اصابعي الموصولة بأطراف دمي والقلم الموصول بأطراف الكلمات. انا كائن الكتابة ومن دونها لا شيء، لا شيء البتة.
هل هذا مرض؟
– اعتقد نعم. الكتابة حُمّى ومرض وحياة. والسبب انني لا اتصوّر نفسي بلا كتابة. بلا شعر.
الغوص في الكتابة بالنسبة اليّ غوص في الحياة. لا كتابة لا حياة. هل يغيّر؟ بالطبع نعم. احسّ انه لا فاصل بين اطراف اصابعي الموصولة بأطراف دمي والقلم الموصول بأطراف الكلمات. انا كائن الكتابة ومن دونها لا شيء، لا شيء البتة
ما النتيجة في حال كهذه؟
– النتيجة احساس بالفراغ والخواء، وانعدام الحافز للعيش. فالحب من دون قصيدة ناقص والجنس والطعام والمشي والموت والربح والخسارة والمجد والهزيمة. كل شيء في نظري من دون قصيدة ناقص. وهو اعتقاد خطير على ما ارى. انه يعني في اختصار ان الحياة بذاتها، الحياة التي نعيشها والوجود الذي نعانيه لا يكفي. فالكتابة ليست وصفاً للحياة والوجود، انها حياة اخرى ووجود آخر، مرسومان بالكلمات. هنا الخطورة من الناحية الميتافيزيقية اي ما يلامس قدرة الشاعر (والفنان على العموم) على الابتكار والخلق.
من انت؟ حزين؟ سعيد؟ غريب… ماذا؟
– أرسم في هذا الصباح وجهي
على المرآة
يسألني في ريبة: من انت؟
احار في امري
أجيبه: من انت؟
كأنني النهر
الذي انكره مجراه
او صورة السماء في المياه
بينهما يحلّ الليل
(من ديوان «يحرق في الآبار»)
الكتابة ليست وصفاً للحياة والوجود، انها حياة اخرى ووجود آخر، مرسومان بالكلمات
العاطفة في حياتك وأشعارك. كيف تعيشها وتعرّفها؟
– لا احب العاطفة الرخوة ولا الرومانسية. وهما غير الوجدان. وعلاقتي بالماضي علاقة استدراج وضرب بالفأس. انني اكثر ميل الى النسيان:
هي الآن في آخر الليل تبكي
وإذ تنقر الريح باباً دماً او جدار
عصافير للحزن تخل في الذاكرة
عصافير للماء تخل في الهاجرة
وينتابني الوابل الموسمي الدموع الرصاص الدموع الدموع الدموع الضحك
انا اضحك الآن لكنني مرهف كالبكاء
هي الآن منشورة كالنعاس الجميل
يقول المغني الذي كان يأتي وما بيننا خيمة او قتيل
يقول المغني تقولني شيئاً وأنسى
وقوفاً انا داخل في النعاس
اين المرأة منك؟
– المرأة جسد وشهوة وأغوار. دائماً اطلبها في الواقع، وأكتبها في الشعر في شكل يختلف عن الواقع. شعري في المرأة جسديّ متأجج بالشهوة، وايضاً غيبي لا مرئي مندرج في الاشراق الصوفي. جمال المرأة وانحناءاتها وجاذبياتها ضاغطة على كلماتي وحياتي معاً.
وهي ذات غموض. اعني الجمال. اما المرأة القبيحة، وهي كثيراً ما تُرى، فأحتملها كمصيبة. المرأة الغبية تقلّل من جمالها، المرأة العامة المباحة لا اقر بها ولا احبها مهما كان مقدار جمالها الجسدي.
المرأة الطفلية تغريني، انفر من المرأة المتكبرة، انفر من المرأة المذكّرة، انفر من المرأة ذات الاحقاد، لا احب التعالي والادعاءات المعرفية في المرأة. احب المرأة التي تكاد تفرّ شهوتها من عينيها ونهديها، لكنها تستر وتخفر ولا تظهر الا لماماً.
لا احب عري المرأة، الحجاب مغرٍ ويطلق سراح المخيّلة. لا احب النساء على الشاطئ، انظر لبعض اللحم المترهّل، افّ كم هن مزعجات.
لا احب عري المرأة، الحجاب مغرٍ ويطلق سراح المخيّلة. لا احب النساء على الشاطئ، انظر لبعض اللحم المترهّل، افّ كم هن مزعجات
اجمل كائنات الله المرأة الجميلة المكتملة. من دونهن الارض فراغ بل خراب. احبهنّ.
من هو شاعر العرب اليوم؟
– لا اراه ابعد من اصابعي.
اين تصنّف تجربتك في الزمن المعاصر؟
– اعتقد انها اثارت الاسئلة الشعرية العربية المرتبطة باللغة والغيب من منابع هذه اللغة حتى اليوم، كما اثارت الاسئلة الوجودية التي لا شعر من دونها، ولذلك ثمة اهتمام بها يتجاوز الثقافة العربية (بالاسبانية اساساً على سبيل المثال).
وحيث انها تجربة حرّة، فهي تأخذ كما ترفض، والعوالم التي صنعتها، مركّبة، من الحال الى الخيال، ومن اليومي الى الاسطوري، ومن الجسدي الى الهيولي… وقد اغناها البعد الغيبي الديني والاشراقي ما جعل اليوميات والمحسومات والمعقولات جميعها طحيناً في مطحنة الحياة..