… هي لحظات، قد تقلب حياتك رأساً على عقب، وتطيح بكل ما خططت له من برامج شخصية أو عملية، إن عاجلة أم آجلة. هذه اللحظات هي “البرهة من الزمن”، التي ينطق بها الطبيب كلامه ليخبرك بما رأى، أو وجد أثناء مراجعته للفحوصات، أو مشاهدته على الشاشة نتيجة “التمييل” الذي أجراه لشرايينك والذي يسجله على CD، تحمله وتجول به على غيره من الأطباء طمعاً في “خطأٍ بشري” ما، قد يرفع عنك صدمة اللحظات والأيام الأولى ويجنبك ما تكره.
بدأت القصة من جانبي شخصياً بمزحة و “ترف” – إذا صح التعبير – الذهاب إلى طبيب القلب للإطمئنان، نتيجة ” قلق ” أهل البيت وهم عائلتي الصغيرة المكوَّنة من زوجتي وأولادي الثلاثة، لمعرفتهم بما أعاني – أسوة بكل رب عائلة – من ضغوط العمل والتوتر الدائم، علاوة على مرارة الغربة القسرية عنهم، إضافة لعامل السن طبعاً، خضعت لإرادتهم بغية إراحتهم وأنا بكامل الإطمئنان حد اللا مبالاة، كيف لا وأنا لا أشكو من أي عارض أو ألم، قد يوحي بوجود مشكلة ما سواء في القلب أو في شرايينه.
بدأت القصة من جانبي شخصياً بمزحة و “ترف” – إذا صح التعبير – الذهاب إلى طبيب القلب للإطمئنان نتيجة ” قلق ” أهل البيت وهم عائلتي الصغيرة المكوَّنة من زوجتي وأولادي الثلاثة
بدأت الرحلة بفحوصات روتينية، كانت بمجملها جيدة بإستثناء “مخزون السكر” بالدم، الذي لامس حدود غير مقبولة طبياً برغم مواظبتي على تناول الدواء بإنتظام وإنضباط، الأمر الذي أثار قلق طبيب القلب، وبدأ بإجراء صُور للشرايين بدءاً من الرقبة ومن ثم “فحص الجُهد” وال ECOSTRESS، التي رفعت منسوب القلق وإستدعت اللجوء إلى مرحلة “التمييل” وهي آخر مراحل الفحص، قبل “إصدار” الحكم النهائي .
دخلت غرفة “التمييل” مبتسماً مع شعور ضمني ببعض القلق، الذي بدأ يتسرب إلى نفسي، نتيجة المرور بكل هذه المراحل، ما يوحي بأن هناك شيئاً ما ليس على ما يرام، ومع ذلك خففت عن نفسي بإيهامها، أن أكثر ما يمكن أن أصل إليه هو وضع “رسور” يدعم أحد الشرايين، الذي قد يكون قد أُنهك بدرجة عالية، وهو ما حدث قبلاً مع والدتي وإخوتي.
دخلت غرفة “التمييل” مبتسماً مع شعور ضمني ببعض القلق الذي بدأ يتسرب إلى نفسي نتيجة المرور بكل هذه المراحل ما يوحي بأن هناك شيئاً ما ليس على ما يرام
بدأ الطبيب ومساعدوه عملهم بتحريك آلة فحص وتصوير الشرايين، وأنا أتابع الصور على الشاشة أمامي، ورغم جهلي بالأمور الطبية، والعبارات التقنية التي يتبادلها الأطباء فيما بينهم، إلا أنني أحسست من خلال حركتهم ونبرة أصواتهم بأن الوضع غير مريح، وبدأت الثواني والدقائق تطول فأحسبُها ساعات، حتى كانت اللحظات التي لطالما كنت أخافها، وأقول أمام الأصدقاء عندما كنا نتعرض بالحديث، لإحدى حالات المرض الشديد والخطير – وما أكثرها في أيامنا – التي أصابت البعض من رفاقنا، بأنها كفيلة بتغيير حياة الشخص وقلبها رأساً على عقب، وهي اللحظات التي أخبرني الطبيب فيها بأنني أعاني من إنسداد كبير في ثلاثة من الشرايين الرئيسية في القلب، وبضرورة التدخل الجراحي العاجل نسبياً ط، لأنه الحل الوحيد لحالتي التي لا ينفع معها لا “رسور ولا بالون”.
صدمني كلام الطبيب حد الإستسلام والخضوع، لما بدا أنه حلٌ واحد أحد لا شريك له ولا بديل، فكان الخضوع على طريقة مجبر أخاك لا بطل، خرجت من غرفة “التمييل” بإبتسامة مصطنعة، خاصة مع رؤية إبتسامة زوجتي وإبنتي، اللتين توسمتا خيراً بخروجي في غضون أقل من ساعة، ووجدْن فيه ما يُطمئن، فإعتقدن بأن الأمر قد قُضي من دون حتى “رسور” ، سألنني بإلحاح بعد “الحمدلله ع السلامة” عن النتيجة، فقلت لهم بأن النتيجة “مش مليحة”، وأن المطلوب عملية كما قال الطبيب، وللمزيد من المعلومات عليكن بإنتظار حضور الطبيب، لأن حالتي النفسية لا تسمح بالمزيد.
لم يستطعن صبراً وذهبن يطاردن الطبيب، ليمطروه بالأسئلة كيف ولماذا، وإذا كان من حل مضمون غير عملية “القلب المفتوح”، التي وإن كان الجميع بات يعرف أنها باتت ” سهلة ” الإجراء نسبة للسابق، إلا أن إسمها “يخض” ووقعها قاسٍ على النفس، مع ما تثيره من أشجان، في بلد كل ما فيه يدعو للخوف والشجن.
إقرأ ايضاً: بايدن «يَلجم» نتانياهو حربياً جنوباً..و«يُطلق يده» في الاغتيالات من الضفة الى صنعاء!
في هذه الأثناء مر أمامي شريط حياتي كاملاً، من ما تيسر وما أتاحه رماد الذاكرة، من أيام الطفولة والمدرسة في منطقة برج حمود، إلى أيام الصبا في دولة ساحل العاج حيث إلتحقت بأهلي، بسبب ظروف عائلية ومن بعدها ظروف الحرب في لبنان، وصولاً حتى الكهولة وما إعتراها من أفراح وأتراح، وسهولة في العيش أحياناً وصعوبات في غالب الأحيان، ووجدت نفسي أفكر بعد زوجتي وأولادي، بأخوتي وأخواتي وما قد أسبب لهم من قلق، وأمي التي تحمل على كتفيها عبء 80 عاماً من السنين، التي تركت بصماتها على قلبها المتعب والمتكئ على عدة “رسورات وبطارية”، بعد أن خسرت أمها وأختها مع جزء من عائلتها في مجزرة بلدتنا كونين عام 1978، كما خسرت أخويها في عز شبابهما جراء مرض القلب، ثم والدي جراء مرض عضال، وبعده شقيقتي الشابة جراء نفس المرض، وبعدهما حفيدها الفتى بمرض القلب أيضاً وأيضاً، وتذكرت هنا كلمات محمود درويش عندما قال “لأني إذا مت أخجل من دمع أمي”، وشعرت بها هذه المرة غير كل المرات السابقة، أحسست بها سكيناً تكوي أضلعي، فلم أستطع كبح جماح دموعي التي سالت بخطين متوازيين، ليس عن خوف – يشهد الله – من ألم أو معاناة قد تسببه عملية القلب المفتوح، ولا عن خوف حتى من الموت نفسه، لكنها سالت حزناً ورأفة ورحمة بمن حولي – خاصة أمي في خريف عمرها – وما قد يسببه هذا الأمر لهم من غم وحزن وقلق، خاصة بعد ما رأيته من علامات القلق المشوب بالفزع في عيون زوجتي وأولادي – وبالأخص إبنتي الصغرى – ، بالرغم من محاولة إخفائه تحت ستار إبتسامات تحاول أن تكون مطمئنة وتشجيعية، بعد إستيعاب صدمة الساعات الأولى.
عضلة القلب سليمة بدرجة مئة بالمئة وهذا ما يساعد في تسهيل أمور الجراحة وكذلك تسهيل العودة للحياة الطبيعية بعدها طبعا مع الإلتزام الشديد بضوابط معينة في السلوك اليومي
بعد التمييل والتشخيص عبر إصدار “الحكم النهائي” من طبيب القلب، جاء دور الطبيب الجراح ليشرح ويقولها بصريح العبارة ” إنت كنت رايح ع السكتة”، قبل أن يعود ويُطمئن بأن عضلة القلب سليمة بدرجة مئة بالمئة، وهذا ما يساعد في تسهيل أمور الجراحة، وكذلك تسهيل العودة للحياة الطبيعية بعدها، طبعا مع الإلتزام الشديد بضوابط معينة في السلوك اليومي، الأمر الذي أدخل – مع تشجيع الأهل وإحتضانهم وخاصة أمي التي كانت كعادتها خير معين – إلى قلبي المتعب الكثير من الطمأنينة والهدوء والأمل بالشفاء.
أكتب إليكم اليوم وأنا في طريقي اليوم إلى غرفة العمليات، حاملاً قلبي المتعب على كفي لأضعه – بعد رحمة الله – أمانة في أيدي أطباء أكفاء نهلوا من العلم الكثير ما يجعل منهم بحق خليفة الله على الأرض، على أمل أن أعود من هذه الرحلة سالماً.