التعليم هو حجر الأساس في بناء المجتمعات وتطوير الأفراد، فهو يمكّن الأجيال من اكتساب المهارات اللازمة للمشاركة الفاعلة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية. في لبنان، تواجه الدولة اليوم أزمة اقتصادية حادة، تتطلب إعادة النظر في سياسات الدعم المختلفة، ومن بينها منح التعليم التي تقدم لموظفي القطاع العام، لتغطية تكاليف تعليم أبنائهم في المدارس والجامعات الخاصة.
يتزايد النقاش حول ضرورة إلغاء هذه المنح، واستبدالها بدعم كامل للمدارس والجامعات الرسمية، وهو ما يطرح العديد من الفوائد الاقتصادية والاجتماعية.
تناقض اقتصادي
نظام منح التعليم الخاص في لبنان، يمكن تشبيهه بالشركات التي تقدم منحاً لموظفيها، لشراء منتجات أو خدمات من شركات منافسة، وهو أمر غير منطقي من الناحية الاقتصادية. أي شركة في العالم لا تقدم مزايا تتيح لموظفيها، الاستفادة من منتجات أو خدمات منافسة، لأن هذا يضر بمصالح الشركة نفسها. في لبنان، تُخصص الدولة مبالغ كبيرة من ميزانيتها لدعم موظفيها في دفع أقساط المدارس الخاصة، بدلاً من استثمار تلك الأموال في تطوير التعليم الرسمي. هذا التوجه يشكل تناقضًا اقتصاديًا واضحًا، حيث تضخ الدولة أموالها في قطاع تعليمي خاص، بدلًا من توجيه هذه الأموال لتعزيز التعليم العام الذي تديره وتشرف عليه.
إضعاف المؤسسات الرسمية
استمرار الدعم الموجه للمدارس الخاصة، يؤدي إلى إضعاف المؤسسات التعليمية الرسمية. فعندما توجه الدولة مواردها لدعم التعليم الخاص بأنواعه المختلفة، تتراجع إمكانيات التعليم الرسمي، ما يؤدي إلى تردي البنية التحتية ومستوى التعليم في المدارس والجامعات الحكومية. يشبه هذا الوضع شركة تقوم بتمويل موظفيها لشراء منتجات من شركات منافسة، ما يضعف قدرتها على المنافسة ويهدد استمراريتها. في المقابل، يمكن أن يؤدي إلغاء منح التعليم الخاص إلى تحويل هذه الموارد لتحسين البنية التحتية التعليمية الرسمية، وزيادة الاستثمار في المدارس والجامعات الحكومية، مما يعزز من قدرتها على تقديم خدمات تعليمية ذات جودة أعلى.
يمكن أن يؤدي إلغاء منح التعليم الخاص إلى تحويل هذه الموارد لتحسين البنية التحتية التعليمية الرسمية
فرصة للتغيير وتحسين المالية العامة
قبل ثلاثة عقود ونيف، كثيرا ما طرح ونادى سماحة الوالد العلامة السيد علي الأمين على منابر الجنوب والمجالس، إلغاء منح التعليم الخاص لموظفي القطاع العام من أجل تعزيز حضور الدولة، وتحسين التعليم ووقف الهدر، وكيف لمؤسسة عامة أن تدعم مؤسسة خاصة منافسة لمؤسساتها العامة وتهملها! وبقيت تلك النداءات لا تسمعها الآذان الصماء، مع أنها كانت رؤية لتجنب انهيار التعليم، والحفاظ على المدرسة الوطنية الجامعة لكل شرائح المجتمع اللبناني. والآن في ظل الأزمات الاقتصادية التي يمر بها لبنان، من الضروري إجراء تغييرات جذرية في السياسة التعليمية. إلغاء منح التعليم الخاص سيساهم في التخفيف من العبء المالي على الدولة، حيث تُستهلك حالياً مبالغ كبيرة لدعم التعليم الخاص، في وقت تعاني فيه الموازنة العامة من عجز متزايد. هذه الأموال يمكن إعادة توجيهها لتحسين التعليم الرسمي، مما سيؤدي إلى تطوير البنية التحتية وزيادة القدرة الاستيعابية للمدارس والجامعات الحكومية. هذا التحول سيخلق بيئة تعليمية أفضل للجميع، دون الحاجة إلى إنفاق مبالغ طائلة على التعليم الخاص.
هذه الأموال يمكن إعادة توجيهها لتحسين التعليم الرسمي
تعزيز العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص
جانب آخر لا يقل أهمية عن الفوائد الاقتصادية هو البعد الاجتماعي لهذا التغيير. إلغاء المنح الخاصة بالتعليم الخاص واستبدالها بدعم التعليم الرسمي يضمن تحقيق العدالة الاجتماعية. التعليم حق أساسي يجب أن يكون متاحًا للجميع بغض النظر عن الوضع المالي للأسرة. عبر هذا التحول، يمكن تحقيق تكافؤ الفرص بين جميع أبناء المجتمع، إذ سيحصل الجميع على تعليم متساوٍ في المدارس الرسمية المدعومة من الدولة. هذا من شأنه أن يقلل من التفاوت الطبقي ويعزز من الاندماج الاجتماعي والوطني.
مخاطر استمرار النظام الحالي
في حال لم يتم إلغاء هذا النظام، فإن لبنان سيواجه العديد من المخاطر. أولاً، سيستمر العجز المالي في التفاقم نتيجة الدعم الموجه للتعليم الخاص، ما يثقل كاهل الميزانية العامة ويزيد من تردي الوضع الاقتصادي. ثانيًا، سيبقى التعليم الرسمي يعاني من ضعف التمويل والتطوير، مما يؤثر سلبًا على جودة التعليم، ويزيد من الفجوة بين القطاعين العام والخاص. ثالثًا، سيستمر التفاوت الاجتماعي بين الفئات القادرة على تحمل تكاليف التعليم الخاص وتلك التي تعتمد على التعليم الرسمي، مما يزيد من تفاقم التفاوت الاجتماعي والاقتصادي في البلاد.
سيستمر التفاوت الاجتماعي بين الفئات القادرة على تحمل تكاليف التعليم الخاص
الخلاصة
إلغاء منح التعليم الخاص لموظفي الدولة اللبنانية واستبدالها بمنح في التعليم الرسمي هو خطوة ضرورية وملحة في هذا الوقت العصيب الذي يمر به لبنان وكان يجب أن يحصل قبل وقت طويل. هذا التغيير سيسهم في تحسين جودة التعليم الرسمي، تعزيز العدالة الاجتماعية، وتقليل العبء المالي على الدولة. بالإضافة إلى ذلك، سيؤدي إلى تحسين المؤسسات التعليمية الرسمية، وجعلها قادرة على تقديم خدمات تعليمية متميزة لكل أبناء الشعب اللبناني بغض النظر عن حالتهم الاقتصادية. في النهاية، هذا التحول ليس مجرد خيار اقتصادي، بل هو ضرورة لبناء مجتمع متساوٍ وتعليم يليق بجميع أبنائه.