عن الحق بالسعادة والتخاذل والصمود

منى فياض

لا أدري ما الذي حدا بي لانتقاء الكتاب الأزرق الصغير لغاييل فاي، من بين الكتب التي قد لا أتمكن من قراءتها ابداً. ربما هو العنوان “وطني الصغير”.

تشدك إجابة الأب، من السطور الأولى، على سؤال الطفلين عن سبب الحرب بين التوتسي والهوتو: هل لأن ليس لديهم الوطن نفسه؟ لا ليس هو السبب.

إذن ليس لديهم اللغة نفسها؟ بل يتحدثون اللغة نفسها، ليس لديهم الإله نفسه. بل لديهم الاله نفسه.

لماذا يتحاربون إذن؟ لأن ليس لديهم الأنف نفسه.

موجع حنين الراوي المولود من أب فرنسي وأم توتسي، ويعيش في فرنسا بعد هربهم من جحيم بوروندي؛ حنينه يحيلنا الى حنين اللبنانيين المهاجرين هرباً من الجنون السائد.

بدآ منذ ذلك اليوم ينظران الى انوف وقامات الناس في الشارع. ذلك الذي يلبس بنطالاً ابيض، انه هوتو، فهو قصير وكبير الانف. وذاك الذي يضع قبعة، فارع الطول، نحيل وانفه صغير جدا، انه توتسي. وهناك صاحب القميص المخطط انه هوتو، ولكن لا لأنه طويل ونحيل.

وهنا بدأ الارتياب من حكاية الاثنيات هذه.

موجع حنين الراوي المولود من أب فرنسي وأم توتسي، ويعيش في فرنسا بعد هربهم من جحيم بوروندي؛ حنينه يحيلنا الى حنين اللبنانيين المهاجرين هرباً من الجنون السائد.

لا يمر يوم دون ان ينادي الوطن المهاٍجر: مثل صوت عابر، عبق رائحة، نور بعد الظهيرة، حركة، أو صمت أحيانا، سيكون كافيا ليوقظ ذكريات الطفولة، مع تحذير من الحنين والرغبة بالعودة: “لن تجد هناك غير الاشباح وكُوَماً من الخراب”…

فالمهاجر لا يقيم في أي مكان. الإقامة معناها ان يذوب المرء بلحمه وشحمه في طبوغرافيا المكان وفي تجاويف محيطه. هنا لا شيء من كل ذلك، يظل عابر سبيل فحسب، يقيم، يبيت، يحتل مسكناً شاغرا.

تترك أيام الطفولة علامات لا يعرف المهاجر ماذا يفعل بها.

المهاجر لا يقيم في أي مكان. الإقامة معناها ان يذوب المرء بلحمه وشحمه في طبوغرافيا المكان وفي تجاويف محيطه. هنا لا شيء من كل ذلك، يظل عابر سبيل فحسب، يقيم، يبيت، يحتل مسكناً شاغرا.

عند سؤال أحدهم:” هل انت بخير؟” الجواب دوما: “بخير”، فوهم السعادة يجنبك التفكير.

هذا حال اللبناني المهاجر. لكن اللبناني المقيم ليس بخير أيضا، فوطنه الصغير أصبح ملعباً بلا سياج. والتوتسي والهوتو اللبنانيين، يتوزعون بين من يساند الحرب المستمرة منذ 11 شهراً، ومن يرفضها ولا يجد فائدة من تدمير لبنان وغزة معاً.

يتكارهون فيما ينتظرون عودة الكهرباء كما موعد الضربة التالية؟ او متى يستعيدون دولتهم؟ ومتى سيتحررون من أطماع تناوب زعماء الطوائف على الاستئثار بالسلطة؟ حتى ولو عنى ذلك بيع الوطن بما فيه لمصلحة الخارج، وتنفيذ مآرب إيران التي تستخدم اللبنانيين بيدقاً للدفاع عن مصالحها وللموت بدلاً عنها.

إقرأ أيضا: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: لماذا يتجنب نصر الله مخاطبة اللبنانيين؟!

تقول الإحصاءات، أن اللبنانيين من أكثر شعوب الأرض تعاسة. الموظفون اللبنانيون هم الأشد غضباً والأكثر حزناً والأكثر توتراً.

هناك من يستكثر على البعض، وهم الاستمرار بعيش حياة “طبيعية”. فينتقدون الحفلات الغنائية والمهرجانات، وسهر الليالي في الحانات والمقاهي والمطاعم. في نفس الوقت الذي تستمر فيه حرب الاستنزاف، والانتظار المميت للضربة المقبلة، في غياب مقومات الصمود. مع الإشارة الى ان بعضاً ممن يساندون الحرب ويدينون الراقصين، يسبحون ويرقصون أيضاً، لكن تعبيراً عن الصمود!!

اللبناني المقيم ليس بخير أيضا، فوطنه الصغير أصبح ملعباً بلا سياج. والتوتسي والهوتو اللبنانيين، يتوزعون بين من يساند الحرب المستمرة منذ 11 شهراً، ومن يرفضها ولا يجد فائدة من تدمير لبنان وغزة معاً.


ننسى هنا مقولة “ان الطائر الجريح يرقص من الألم”..

وينسى اللائمون ان مشاعر الإحباط والضغط والحصر المزمنة، التي يعاني منها اللبناني، تتسبب بتغيرات في السلوك، بفقدان الثقة بالنفس، والتركيز على السلبيات، وازدياد العنف والادمان، وتصاعد الهجرة، والتفكك الاسري والاجتماعي.

ان ما يعيشه اللبناني لم يعشه أي شعب قبله، فاتركوه يشغل وقته بما يمكن أن يخفف عنه قدره المزري.


والأهم من كل ذلك تتراجع المشاركة المجتمعية بسبب الشعور باليأس والعجز عن تغيير الواقع، مما يجعلهم يتراجعون عن المشاركة في الحياة العامة والسياسية.

وهذا ما يفسر حالة العجز الراهن، بانتظار حدوث معجزة تغيّر المعادلات الراهنة، وتبعث بعض الأمل لانتشالهم من الإحباط والعجز.


ولا يبدو ان مثل هذه الأمنيات سهلة التحقق، خصوصاً في هذه الأوقات الحبلى بمفاجآت لجميع الأطراف. فالعام بأجمعه في وضع غير مستقر.

ان ما يعيشه اللبناني لم يعشه أي شعب قبله، فاتركوه يشغل وقته بما يمكن أن يخفف عنه قدره المزري.

*ينشر بالتزامن مع بثه عبر أثير إذاعة “صوت لبنان”.

السابق
قوى الأمن: توقيف مطلوب استلم طردًا مُرسلًا من إحدى دول أميركا الجنوبية ويحتوي مواد ممنوعة
التالي
المفوض العام للأونروا: أكثر من 70% من مدارس الاونروا في غزة دمرت أو تضررت