عندما تتحول «المقاومة» إلى «سلطة» فاشلة!

ياسين شبلي

لطالما كان منطق الدولة مختلفاً كلياً، عن منطق الثورة أو المقاومة أو الحركات الشعبية، أو سمِّها ما شئت. منطق الدولة يقتضي أن تتعامل مع القوانين والشرائع الدولية المعتمدة بين الدول، بغض النظر عن رأي وموقف كل دولة من هذه القوانين والشرائع. أي بمعنى آخر هناك قواسم مشتركة متفق عليها بين الدول، هي تماما كما ما يسمى “الحس المشترك”، القائم في كل مجتمع من المجتمعات، هذا الحس الجمعي الذي تقوم عليه دعائم هذا المجتمع.

بهذا المعنى تبدو الثورة هي النقيض للدولة، لأنها أصلاً هي نتاج الرفض لهذه القوانين، والقواسم المشتركة القائمة بين الدول أو المجتمعات، من هنا يبدو الجمع بين الدولة والثورة، كمثل الجمع بين الزيت والماء غير ممكن، فالثورة ثورة والدولة دولة على مبدأ “الشرق شرق والغرب غرب”.

الثورة ثورة والدولة دولة على مبدأ “الشرق شرق والغرب غرب”

في العالم العربي وكما العادة هناك دائماً تفسيرٌ مغاير لكل شيء، ومعانٍ ومقاصد أخرى لكل كلمة وعمل – خاصة في الحقل السياسي – حتى بات من المُلِحْ أن نتفق مجدداً، على معاني الكثير من الكلمات، مثل الدولة نفسها والسلطة، وكذلك الثورة والمقاومة، مثل الإنتصار والهزيمة وكذلك الكرامة والعزة والذل والهوان، هي كلمات بات لها ألف معنى ومعنى، بعضها بعيد كل البعد عن الواقع والمنطق والحقيقة، بل على العكس تراه نابعاً من عملية “إنكار للواقع”، ونتاج أوهام يخلقها ويساعد على إنتشارها، كم هائل من التضليل الذي “يتقنه” للأسف بعض الناس المأجورين، والمعتمدين لهذه الغاية.

غالبية الإنقلابات العربية تحولت إلى “ثورات”، فجمعت بذلك بين الثورة والدولة، بطرق أقل ما يقال فيها أنها ملتوية

لذلك نرى في منطقتنا، بأن غالبية الإنقلابات العربية تحولت إلى “ثورات”، فجمعت بذلك بين الثورة والدولة، بطرق أقل ما يقال فيها أنها ملتوية، فكان منطق الثورة في الإعلام والبروباغندا السياسية، ومنطق الدولة في الممارسة العملية واليومية، ودائماً سواء في الإعلام أم في الواقع، فإن مصلحة “الجماهير” هي البوصلة لهذه السياسات، بحسب زعم القيِّمين على الثورة – الدولة.

بدأت الحكاية في مصر عام 1952، ومن ثم في اليمن عام 1962، وبعدها في العراق وسوريا عام 1963، مع إستيلاء حزب البعث على السلطة في كلا البلدين، وكذلك في ليبيا والسودان وغيرها. هذا في الدول “الثورية” العربية التي – ويا للمفارقة – كلها تقريباً إصطدمت بطريقة أو بأخرى، مع “الثورة الفلسطينية” في سعيها لـ”تثوير” المجتمعات العربية، تمهيداً لإطلاق حرب تحرير شعبية، تُعيد فلسطين عبر المقاومة المسلحة إلى أهلها وأمتها.

كذلك حصل الصدام في الدول العربية “المعتدلة أو الرجعية”، كما درجت العادة على تسميتها من محور ” الثورة ” – وإن كان الأمر هنا أكثر منطقية وواقعية – ففي الأردن حصل الصدام الأول، بين منطق الثورة الفلسطينية ومنطق الدولة الأردنية، ومن ثم إمتد هذا الصدام إلى لبنان مع إختلاف الظروف الداخلية لكل بلد، بعدها وفي لبنان أيضاً حصل نفس الصدام بين الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية من جهة، وسلطة النظام السوري من جهة أخرى، وذلك تحت ذريعة حماية “المصالح القومية العربية” من التفتيت، وحماية الثورة الفلسطينية من مؤامرة “التوطين”، ولبنان من مؤامرة “التقسيم”، وصولاً إلى السنين الأخيرة – وحتى اليوم – بين حزب الله كـ “مقاومة ” ومنطق الدولة أو السلطة في لبنان.

ما يجعل هذا الصراع حتمياً، أن الدولة التي من المفروض أنها تمثِّل الشعب بكافة فئاته، وذلك عبر السلطة الحاكمة فيها، لها مصالح ومؤسسات تخاف عليها – وقد تكون مصالح للطبقة الحاكمة فيها فقط وليس بالضرورة للشعب – وإلتزامات عليها تنفيذها، بينما الثورة أو المقاومة ليس لديها ما تتخلى عنه أو تخاف عليه سوى سلاحها ونضالها، ولهذا غالباً ما تكون هذه الثورة أو المقاومة، عبارة عن عمل سري ينطلق من تحت الأرض، ولا يمكن أن يكون مرئياً إلا بنتائجه، بعكس ما هو حاصل اليوم للأسف، سواء في لبنان أم في فلسطين، من مقاومة تحولَّت إلى سلطة موازية، سواء للسلطة القائمة كما في لبنان، أو لسلطات الإحتلال كما في فلسطين، ما أوقعها في تناقض كالذي وقعت فيها بعض الأنظمة العربية “الثورية” سالفة الذكر ، فلا هي بقيت ثورة أو مقاومة نقية، ولا نجحت في أن تكون سلطة رشيدة، فكانت نتائج تجاربها كارثية على الناس والأوطان.

هذا ما لمسناه ونلمسه يومياً في لبنان، في ظل حرب “الإسناد والمشاغلة”، خاصة في الآونة الأخيرة، بعد الهجوم الإسرائيلي على ضاحية بيروت الجنوبية، وإغتيال القيادي فؤاد شكر، ما إستوجب رداً من “حزب الله”، كان قد ألزم نفسه به سلفاً، عبر معادلة بيروت والضاحية مقابل تل أبيب، وغيرها من المعادلات التي للأسف، لم نستطع تطبيق أي منها، ما ترك في الحالة الأخيرة قلقاً واسعاً لدى الناس، من إمكانية “رد” الحزب على الضربة والرد الإسرائيلي على الرد، ما أدى إلى موجة نزوح كبيرة طالت الضاحية الجنوبية لبيروت، في حين كان واضحاً تخبط “حزب الله” في محاولة الرد، نظراً أولاً لإرتباط هذا الرد بمفهوم “وحدة الساحات”، خاصة بعد إغتيال إسماعيل هنية في طهران، وإلزام هذه الأخيرة نفسها بالرد أيضاً، مع ما قد يحمله الردان من مخاطر تفلت الوضع الإقليمي، وثانياً نظراً لظروف لبنان الداخلية المهترئة، التي يتحمل فيها الحزب مسؤولية كبيرة، كونه تحوَّل كما قلنا وبالتدريج، من مقاومة إلى سلطة، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من مصالح متشابكة داخلياً وإقليمياً، بات يخشى عليها من الفقدان، لينتهي الأمر برد “مدروس”، كما غيره من الردود، منذ إغتيال القائد عماد مغنية وحتى اليوم.

هكذا يكون الأمر عندما تتحول “المقاومة” إلى سلطة، ويصبح لديها مصالح وتقاطعات، تخاف عليها، وبهذا تنتفي عنها صفة المقاومة لتصبح دولة أو سلطة، وقمة المأساة هنا، عندما تنجح في كونها مقاومة أو ثورة، وتفشل في كونها سلطة حاكمة.

السابق
«مهلة أسبوعين».. ألمانيا تطرد ممثل خامنئي من البلاد!
التالي
يافطات للإمام الصدر تستنفر بلدية الغبيري.. اليكم ما يحصل