
“أحتفظ بحق الرد”، نسمع هذا التعبير كثيرا كلّما تقوم إسرائيل بمهاجمة أهداف في ايران، أو سوريّا، أو لبنان، لا تنتهك سيادتهما الوطنيّة فحسب، بلّ تشكل عملا عدوانيا مباشرا ضدّ الأطراف المعنيّة.
كان آخر هذه الهجمات عمليّة اغتيال رئيس المكتب السّياسي لحماس إسماعيل هنيّة في قلب العاصمة الإيرانيّة طهران، واغتيال القائد العسكري لحزبها في لبنان فؤاد شكر، في قلب مقرّ قيادة الحزب في الضّاحية الجنوبيّة للعاصمة اللّبنانيّة، بيروت، واغتيال قادة من الحرس الثّوري الإيراني في سوريّا.
هذا التعبير لا مكان له في القانون الدّولي. فهو لا يتّصل بمبدأ الدّفاع عن النّفس. فذلك المبدأ له قواعده في نظام العلاقات الدّوليّة، وميثاق الأمم المتّحدة. وهو لا يتّصل بمبدأ “ألمقاومة” الذي له أيضا، قواعده المماثلة. هو تعبير يتّصل بكلّ بساطة، بفكرة الإنتقام. والإنتقام غير مشروع في نظام العلاقات الدّوليّة، إلا في ظروف محدّدة يقبل بها فقهاء القانون، وضمن قواعد متّفق عليها عرفا.
ووفقا للفقه القانوني، فإنّ من المفترض أن تتقدّم ايران، وسوريّا، ولبنان، بشكاوى في مجلس الأمن تحت الفصل السّابع من الميثاق، المتّصل بأعمال تهديد الأمن والسّلم الدّوليّين، ليس بهدف إدانة الهجوم الإسرائيلي فحسب، بلّ بهدف اتّخاذ إجراء مناسب ضدّ إسرائيل، بحجة أن ما قامت به يشكل تهديدا للأمن والسّلم الدّوليّين.
توقّع استخدام الفيتو، لا يبرّر تجاهل التّقدّم بشكوى أمام مجلس الأمن
نفهم أن يقوم أحد أعضاء المجلس، باستخدام حقّ الفيتو ضدّ أيّ قرار قد يدين إسرائيل، أو يسائلها. لكنّ توقّع استخدام الفيتو، لا يبرّر تجاهل التّقدّم بشكوى أمام مجلس الأمن. فمن جهة، من حقّ ايران، أو سوريّا، أو لبنان، في حال فشل مجلس الأمن باتّخاذ قرار بهذا الصّدد، مراجعة الجمعيّة العامّة للامم المتّحدة وفقا للقرار ٣٧٧ لعام ١٩٥٠ (الإتّحاد من أجل السّلام)، لإتّخاذ القرار المناسب. وغالبا ما تقوم الجمعيّة العامّة باتّخاذ هذا القرار.
نعلم أنّ إيران ومحور “المقاومة”، والكثير من القيادات “الثّوريّة الشّعبويّة” في بلدنا، وبلدان عربيّة أخرى، ترى اللّجوء إلى هذا الإجراء، ضياع وقت، وأنّ القرارات الصّادرة عن الأمم المتحدة، “حبر على ورق”.
لا… مثل هذا الإجراء ليس إضاعة للوقت، ولا القرارات مجرّد “حبر على ورق”. هذه الإجراءات ضروريّة لعدّة أسباب:
1- تأكيد الدّول المعنيّة على احترام الشّرعيّة الدّوليّة، والتّأكيد على رفض سياسة القوى العظمى في تحجيم نظام الشّرعيّة الدّوليّة، وتدمير هذا النّظام الدّوليّ لمصلحة القوي. النّظام الدّولي آليّة فاعلة وضروريّة لحماية الدّول الصّغيرة. قد ترى إيران أنّ اللجوء إلى الأمم المتّحدة دليل ضعف، لكنّها تنسى أنّ الأمم المتّحدة، هي التي حمتها من أطماع الإتّحاد السّوفياتي عام 1946، وهي التي دمّرت العراق الذي لم يكن يقلّ قوّة عنها، عندما تحدّى المجتمع الدّولي ورفض الإنسحاب من الكويت عام 1990.
2- زيادة تعرية إسرائيل أمام المجتمع الدّولي، وتحويل الموقف الإيراني الغاضب من العمل العدواني ضدّها، إلى موقف دولي غاضب.
3- التّبرير للعمل الإنتقامي إذا لم تمتثل إسرائيل للقرار.
لم تلجأ إيران إلى الأمم المتّحدة ولن تلجأ إليها. هي تعلم أنّ المجتمع الدّولي سيطالبها بوقف تدخّلها في النّزاع في فلسطين، وجنوب لبنان، واليمن، والعراق، وسوريّا. تجاهل الأمم المتّحدة، حاجة لاستمرار التّدخّل كما تفعل منذ سنوات، ولأنه يبقيها في خانة الشّريك مع القوى الخارجيّة المتنافسة على الشّرق الأوسط، وليس الخصم له.
وعليه، تقوم بالتّفاوض مع إسرائيل بالواسطة، سواء من خلال الولايات المتّحدة أو غيرها، لتحديد حدود التّنازع بينهما، والحفاظ على قواعد إشتباك، لا تضرّ بوتيرة مطامعهما المشتركة، وتحفظ التّنافس من أن يتحوّل إلى مواجهات غير مستحبّة لكليهما.
رغم مرور كلّ تلك السّنوات من الصّراع في الشّرق الأوسط، لا يريدون فهم دور الشّراكة الإيرانيّة في لعبة المصالح في هذه المنطقة
يؤسفني أنّ بعض المفكرين في بلدنا، ورغم مرور كلّ تلك السّنوات من الصّراع في الشّرق الأوسط، لا يريدون فهم دور الشّراكة الإيرانيّة في لعبة المصالح في هذه المنطقة، وحدود الصّراع بينها وبين إسرائيل حفاظا على مبدأ الشّراكة بهذه اللعبة.
ماذا بعد أن ذهب لبنان إلى مجلس الأمن بعد اغتيال شكر في الضاحية؟ كرّر لبنان تمسّكه بالقرار 1701. لكن من يمنع لبنان من تنفيذ هذا القرار؟
يعلم المجتمع الدّوليّ، الجواب. لبنان منقوص السّيادة. لكنّه لا يحاول استعادة سيادته. فالبلد تحكمه طبقة من الفاسدين. رأينا ذلك منذ أن خضع هؤلاء لإتّفاق الدّوحة بدلا من استصراخ الأمم المتّحدة عبر مجلس الأمن، لتشكيل قوّة دوليّة تساعده في تنفيذ القرار 1701.
ولقد طالبنا منذ أن حصلت الحملة العسكريّة الإسرائيليّة على غزّة، بمراجعة مجلس الأمن والجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، لوقف الحملة وفرض حلّ لهذه الحالة المستمرّة منذ عشرات السّنوات. كان من الممكن أن يدين قرار للهيئة الدّوليّة، هجمة حماس تاريخ ٧ تشرين الأوّل، لكنّ مثل تلك الإدانة تبقى أقلّ ضررا ممّا حصل في غزّة حتّى اليوم. بلّ وأكثر، فقد كان مؤكّدا أنّه سيفرض العمل على حلّ سياسيّ، يؤدّي في المحصّلة إلى حلّ الدّولتين، والإعتراف بدولة فلسطينيين.
يقول فقهاء أنظمة الرّفض والمقاومة، أنّ الامم المتّحدة لا تملك القدرة على تفعيل قراراتها ولا حاجة لها. إنّ تجاهل المؤسّسات الشّرعيّة الدّوليّة، بحجّة فشلها في إحقاق الحقوق المشروعة للشّعب الفلسطيني خطأ جسيم، وفشل في رسم استراتيجيّة عربيّة سليمة. نحن الضّحيّة ورفض اللّجوء إلى الهيئات الدّوليّة لا يخدم سوى المعتدي. أثبت إجراء أفريقيا الجنوبيّة أنّ مثل هذا الإجراء يضرّ إسرائيل كثيرا، بلّ أكثر من بضعة صواريخ وقنابل حماس الظرفيّة. لكن من الواضح أنّ عدم اللّجوء إلى الأمم المتحدة في حينه، لم يكن ممكنا، لأنّ الدّول العربيّة، والإسلاميّة غير متّفقة على مستقبل فلسطين.
إنّ تجاهل المؤسّسات الشّرعيّة الدّوليّة، بحجّة فشلها في إحقاق الحقوق المشروعة للشّعب الفلسطيني خطأ جسيم
ثم أنّ الأمم المتّحدة لم تفشل في تنفيذ قراراتها، بل هي الدّول العربيّة التي ساعدت إسرائيل، ومن يدعمها، في التّهرب من تنفيذ التزاماتها. كيف؟ سيكون لنا مقالة أخرى للإجابة على هذا السؤال.