بعد «طوفان الأقصى».. السلوك الاسرائيلي ينقلب «رأسا على عقب»!

طوفان الأقصى 7 أكتوبر

أدخلت عملية ” طوفان الاقصى” الصراع العربي ــ الاسرائيلي في مرحلةٍ نوعيةٍ جديدة، قلبت المعطيات السياسية والعسكرية والتحليلية رأساً على عقب، وأصبح المطلوب معها بذلَ جهدٍ نوعي، لإعادة تعريف الكثير من المسلّمات، المكوّنة للمنطلقات الفكرية والعملية، المتعلقة بمفهوم الثقافة الاستراتيجية الاسرائيلية، التي كانت تحكم السلوك العسكري والأمني على مدى العقود الماضية.

قلبت المعطيات السياسية والعسكرية والتحليلية رأساً على عقب


لنتجاوز مرحلياً كلَّ ما أُثير من تساؤلاتٍ حول كيفية نجاح “حماس”، في اختراق السور الواقي لمستوطنات غلاف غزة، الذي كلّف اسرائيل مئات الملايين من الدولارات، في ظل تفوق تقني وأمني، لا يقاس بين الطرفين، ولنضع جانباً أيضاً ما يتم تداوله راهناً عن تلك الوثيقة، التي كشفت بأن الجيش والمخابرات، كانا على علمٍ بتفاصيل 7 اكتوبر قبل ثلاثة اسابيع من تنفيذ تلك العملية، بحسب ما نقلته هيئة البث الاسرائيلية، وعلى أهمية هذا المعطى، الذي سيكشف الكثير في مقبل الايام، الامر الذي سينقل تحليل الواقع الى مكانٍ آخر، وعليه سيتم التركيز على ملامح تلك التحولات، لفهم الواقع المتسجد وكيفية التعاطي معه على المستوى السلوك والفكر السياسي الاسرائيلي وتحليله.
الملمح الاول: لطاما دأب المحلّلون الاستراتيجيون والعسكريون، الحديث عن أن عامل الوقت كان يمثلُ على الدوام، الإعورار في قدرة العدو على الصمود، حيث وُصِفَ الوقتُ بالجنرال، الذي يعمل لغير صالح اسرائيل، مشكّلاً على الدوام نقطة الضعف البنيوية، التي تجبر الجيش الاسرائيلي، على خوض حروب سريعة، تجبنه أكلاف الاستنزاف البشري والسياسي والاقتصادي، بيد أنه بعد عملية ” طوفان الاقصى”، ولأول مرة في تاريخ الصراع مع اسرائيل، نجد أن هذا العامل قد سقط وفقد تأثيره المباشر، لتخوض اسرائيل طيلة ثمانية اشهر ونيف الحرب على غزة، وسط صدور تصريحات عن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وقادة آخرين، عن إمكانية إطالة أمد العملية العسكرية حتى نهاية العام الجاري، لحين القضاء على “حماس”، واحتلال رفح آخر معقل من معاقل “حماس”، وهذا ما يؤكد أن عامل الوقت على ألاقل، لم يعد يعمل ضد اسرائيل، هذا اذا تجنبنا القول إنه بات يعمل لصالحها.
الملمح الثاني: منذ قيام دولة اسرائيل في العام 1948، كانت القيادة الاسرائيلية تصرُّ، على إظهار حرصها الوجودي على حماية شعبها، عبر وضع محددات استراتيجية لا يمكن للدولة العبرية التهاون بشأنها، اذا ارادت لنفسها الاستمرار والانتصار على جيرانها، لذلك وانطلاقا من البعد الديمغرافي ثبّت الاسرائيليون ركيزتين، الاولى تؤكد أن هناك معدل اقصى لخسائرهم البشرية، يمكن القبول به قياسا بخسائر اعدائها، وهي خسائر لم تتجاوز اكثر من 2 الى 5 بالمئة في جميع الحروب التي خاضتها ضد العرب، أما الركيزة الثانية، فهي تتعلق بسعي اسرائيل الدائم، للتأثير على الوعي الغربي عبر بناء صورتها على أنها دولة تكثرث كثيرا لسلامة مواطنيها وأمنهم، لدرجة أنها كانت تقوم بعمليات تبادل لمئات الاسرى من العرب والفلسطينيين، مقابل جندي او اشلاء جندي اسرائيلي، بهدف إظهار تفوقها الاخلاقي والانساني في بيئة معادية لها!
وبعد عملية “طوفان الاقصى” نجد أن الخسائر البشرية في صفوف الاسرائيليين كانت في بداية الحرب الحالية كبيرة وغير مسبوقة، لذا قامت بشن حرب دموية ضد شعب غزة، لإعادة تكريس المعدل نفسه، لتكون خسائر العدو كبيرة، ولا تقاس بخسائرها المحدودة، بحسب العقيدة القتالية الاسرائيلية المستمرة، مطلقة العنان لاجرامها بحق الأبرياء.

تمثّل بعدم اكتراثهم لأرواح المحتجزين والرهائن الاسرائيليين لا بل قامت بتدمير القطاع على روؤس الجميع محاولةً إفقاد “حماس” وباقي الفصائل ميزة ابتزاز الحكومة


أما الأمر الأهم الذي شكّل تحولاً جذرياً في السلوك الاسرائيلي، فقد تمثّل بعدم اكتراثهم لأرواح المحتجزين والرهائن الاسرائيليين، لا بل قامت بتدمير القطاع على روؤس الجميع، محاولةً إفقاد “حماس” وباقي الفصائل ميزة ابتزاز الحكومة الاسرائيلية، التي تعتبر نفسها في خضم حربٍ وجودية، تعطيها مبرر عدم الدخول في عملية تفاوض، وفي يد القيادة الحمساوية ورقة الاسرى، علاوة على القبول بتسوية، لا تحقق لها مطالبها السياسية والعسكرية، وعليه فقد اعتقد الجميع، أن اسرائيل في ظل هذا العدد المهم من المعتقلين في انفاق غزة، ستبادر على الفور الى الاستجابة لمطالب “السنوار”، لناحية استعادة العدد الاكبر من المعتقلين الفلسطينيين، وأن المسألة لن تاخذ أياماً لبدء التفاوض، انطلاقاً من تجارب عمليات التبادل السابقة، حيث كانت الرضوخ الاسرائيلي والانصياع هو المبدأ في هذا الصدد.
وعلى الارجح إن “حزب الله” وبهذه الخلفية، قد سارع في الدخول بهذه الحرب، من باب المساندة لـ”حماس” وفي ظنه ان ورقة الاسرى ستقهر الإرادة الاسرائيلية، وهو الحزب المجرِّب في هذا الخصوص، وهذا ما لم يتحقق، فتحولت حرب المشاغلة في الجنوب الى حرب استنزاف، تقلصت معها مطالب “حزب الله”، الى حدود وقف النار فقط لا غير، فدُمرت قرى جنوبية عديدة، وفي الوقت نفسه، لم تمنع حربُ المساندةِ الاسرائيليين من تدمير غزة، كلّ غزة.
الملمح الثالث: على الرغم من أن العلاقات الاميركية الاسرائيلية، كانت تشوبها بين الفينة والاخرى بعض التوترات، التي ما تلبث أن تحل، إلا أنه مع بدء الهجوم الاسرائيلي الدموي على غزة، تصاعدت حدة الاختلافات بين ادارة جو بايدن وحكومة بنيامين نتنياهو، التي بدأت بالضغط على اسرائيل، لتجنب استهداف المدنيين والتركيز على الاهداف العسكرية، فبلغ الخلاف حداً غير مسبوق، عبّر عنه تشاك شومر زعيم الاغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، عبر دعوته الى اجراء انتخابات مبكّرة في اسرائيل، نظراً لتعنت نتنياهو المحرج للرئيس بايدن داخليا وخارجيا، وهو الذي وقف منذ اليوم الاول لعملية “طوفان الاقصى” الى جانب الاسرائيليين ،إنما عدم قدرة اسرائيل على الحسم العسكري السريع، ما تسبب بإزهاق ارواح الالاف من الفلسطينيين من الاطفال والنساء والعجز، وبعد تكرار المطالبات الاميركية بإعطاء هدن انسانية وحماية المدنيين، اصرّت حكومة نتنياهو على عدم الامتثال لتلك المطالب، فصعّدت الولايات المتحدة في وجه المتشددين في الحكومة الاسرائيلية، لتفرض جملة من الثوابت وضعتها امام الحكومة الاسرائيلية، مهددة بإيقاف ارسال السلاح الى الجيش الاسرائيلي، ومن اهم هذه الثوابت رفض احتلال غزة بالمطلق، وعدم تهجير شعبها خارج ارضه، فارضة في الوقت نفسه، ادخال المزيد من المساعدات الانسانية العاجلة.

تحولت حرب المشاغلة في الجنوب الى حرب استنزاف تقلصت معها مطالب “حزب الله”


ولم يقف هذا التطور عند هذا الحد، بل تقدمت الولايات المتحدة بمشروع قرار الى مجلس الامن، ينص على وقف دائم لاطلاق النار، والافراج عن المحتجزين والرهائن وقد وافق مجلس الامن عليه. وفيما يبدو وبرضى اميركي مبطن، طلب مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية كريم خان الى المحكمة، اصدار أوامر باعتقال نتنياهو ويوآف غالانت بتهم ارتكاب ابادة جماعية، وهذا تطور لم يكن يُتصور حصوله حتى ولو من باب التمني، كما وتجدر الاشارة الى مبادرة دول اوروبية فاعلة بالإعتراف بدولة فلسطين، الامر الذي مثّلَ صدمة سياسية مربكة لاسرائيل، سيكون لها تداعياتها المستقبلية على مجمل القضية الفلسطينية، وعلى علاقة اسرائيل بالعالم.
قصارى القول لقد أثرت عملية “طوفان الاقصى” والحرب الناتجة عنها في السلوك الاسرائيلي، وحفرت فيه عميقاً، حيث أسقطت الكثير من المسلمات والمنطلقات التحليلية للسياسة الاسرائيلية، وجعلتها أثرا بعد عين. فأسرائيل ما قبل 7 تشرين ليست كما بعدها.

السابق
بزشكيان يتقدم بـ900 الف صوت على جليلي..وجولة ثانية الجمعة!
التالي
بالفيديو: المواجهات تشتد.. استهداف درّاجة ناريّة بين حولا وميس الجبل ومقتل سائقها